اعتدل الضابط في جلسته وأضاء المصباح الموضوع فوق مكتبه وسلط الضوء على وجه ذلك الشخص الذي يجلس أمامه .. قبل أن يقول وهو يعبث بشاربه :
– شئ غريب أن تقتل شقيقك ، ثم تتصل بالشرطة وتنتظرهم في مسرح الجريمة حتى يصلوا ليقبضوا عليك !! لماذا قتلته ؟ هيا تكلم يا عادل فأنا انتظر منك اعترافا كاملا ..
رفع عادل بصره إلى وجه الضابط رغم المصباح الذي أمامه .. كانت لحيته نامية .. ويداه مقيدتان بالأصفاد .. وفي عينية بقايا دموع ترفض أن تسقط .. ورغم ذلك فقد اكتسى وجهه بالجمود وخرج صوته عميقا وهو يقول ببطء :
– سوف أحكي لك كل شئ .. فهل أنت مستعد ؟
أجابه الضابط في لهفة تعكس اهتمامه بالأمر :
– بكل تأكيد .. هيا أنا أنتظر منك أن تبدأ ..
وخيم الصمت في المكان للحظات حتى أصبح صوت حركة المروحة المعلقة في أعلى سقف الغرفة هو المسيطر على المكان .. ثم شردت عينا عادل وعقله يسترجع تلك الأحداث القديمة .. وبدأ يحكي للضابط ..
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
انطلقت زغرودة فرح من حنجرة أم عادل في ذلك اليوم المشرق من فصل الشتاء .. فشقيقتها خرجت من المستشفى وقد أنجبت بنتا جميلة يشع وجهها بالضياء .. في تلك اللحظات السعيدة قالت أم عادل وهي تستقبل شقيقتها :
– ابنتك سميرة هي لابني عادل .. وسوف نفرح بهما معا ..
وابتسمت شقيقتها ولم تعلق .. فما أجمل الفرحة عندما تحتوي الإنسان بكل مشاعره ..
كان عادل وقتها في الرابعة من عمره ، وكان سعيدا بقدوم هذه الضيفة الصغيرة .. أما مهند فكان يصغر عادل بسنة واحدة فقط .. وكان هو أيضا سعيدا !!
ومنذ ذلك اليوم أصبح أمرا معروفا أن عادل هو لابنة خالته سميرة .. كانت هذه العادة منتشرة في ذلك الوقت بهدف الترابط بين العائلة الواحدة .. ولكن ربما لم يفطن الجميع أن الزمن لا يسير على وتيرة واحدة .. وما يصلح بالأمس ليس بالضرورة يصلح اليوم .. وإذا كان الأطفال ليس لهم رأي فإنهم سيكبرون يوما ولن يظلوا صغارا للأبد !!
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
وضع الضابط قلمه فوق الأوراق المتراكمة أمامه .. وتراجع بظهره للوراء وهو يهز رأسه متفهما ثم يقول بإشفاق :
– فهمت الآن .. والذي حصل أن بنت خالتك لم تبادلك نفس الشعور .. ونشأت قصة حب بينها وبين شقيقك مهند .. أليس هذا ما حدث ؟
خيل للضابط أنه شاهد علامات الغضب قد حفرت في ملامح عادل .. ولكن سرعان ما عادت ملامحه للجمود وهو يقول بصوت فيه حدة :
– علاقتي بشقيقي مهند تجاوزت معنى الأخوة .. إنه أعز صديق لي والشخص الذي أبوح له دائما بأسراري .. وهو دائما كان ينتظر ليلة زواجي من ابنة خالتي لأنه يعرف أنها لي منذ أن كنا صغارا ..
شعر الضابط بالحرج وأراد أن يعتذر لكنه امتنع عن ذلك وسأله بحيرة :
– يبدو أني تسرعت في الاستنتاج .. لو سمحت أكمل قصتك فالفضول بدأ يستبد بي ..
انطلقت زفرة حارة من أعماق عادل أعقبها لحظة صمت .. ثم بدأ يكمل قصته ..
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
كان عادل سعيدا بوظيفته الجديدة التي حصل عليها مباشرة بعد تخرجه من الجامعة .. كان ينطلق نحو حياة جديدة كلها أمل وتفاؤل .. هناك شئ واحد لفت انتباهه كل صباح وهو يغادر منزله متوجها إلى عمله .. ففي نفس الوقت كانت ابنة الجيران هي أيضا تخرج من منزلها لتذهب إلى الجامعة مع السائق .. في البداية كان يتجاهل الأمر ويمضي في طريقه .. لكنه كان يعلم في قرارة نفسه أنه ينتظرها كل يوم ليراها ثم يذهب .. حاول أن يطرد تلك الحقيقة التي بدأت تحيط به .. ولكنه أكتشف أنه حينما تلتقي عيناه بعينيها يبستم ، وفي نفس الوقت يخيل إليه أنها هي أيضا تبتسم !!
وبعدها أصبح قلبه هو الذي يبتسم عندما تتلاقى العيون .. وعندما يختلي بنفسه كان يفكر بها .. إنها ليلى ابنة الجيران التي كان يشتري لها الحلويات في طفولتهما .. لقد كبرت الآن وأصبحت تدرس في الجامعة .. ما أسرع الأيام عندما تركض ..
وفي ذلك اليوم البارد من فصل الشتاء والذي يصادف اليوم الأخير من العام الميلادي استيقظ عادل قبل صلاة الظهر بدقائق .. فهو لم يذهب إلى العمل اليوم نظرا لعملية الجرد السنوية التي تقوم بها الشركة .. وقبل أن ينهض من سريره كان جرس الهاتف يرن .. أخذ السماعة وهو يقول بصوت ناعس :
– مرحبا .. من المتحدث ؟
– أهلا وسهلا .. أنت عادل ؟
– نعم أنا عادل .. أي خدمة ممكن أن أقدمها ؟
– احم .. لا أبدا .. أقصد .. احم .. عسى ما شر لماذا لم تذهب إلى عملك اليوم ؟ .. عفوا ، نسيت أن أعرفك بنفسي .. احم .. أنا ليلى !!
وهوى قلب عادل بين قدميه .. فقد كانت مفاجئة لم يكن يتوقعها ..
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
ابتسم الضابط في خبث وهو ينظر إلى عادل من طرف عينيه قائلا :
– من الواضح أنها أحبتك ..
وكان رد عادل دمعة ساخنة انحدرت من عينه لتسيل على خده في صمت مهيب .. فارتبك الضابط وهو يلوم نفسه لعدم قدرته على احترام مشاعر عادل .. وحاول أن يتدارك الموقف بسرعة فقدم لعادل منديلا وهو يقول بمودة :
– لا تجعل الماضي كابوسا يجثم على صدرك .. إنه أمر قد انتهى ولن يعود ..
أومأ عادل برأسه إيجابا وهو يمسح تلك الدمعة اليتيمة التي سقطت ثم رفع رأسه إلى الأعلى وهو يحدق بالمروحة قبل أن يقول :
– يكفي أن الماضي يسرق منا أجمل الأيام التي نعيشها ..
لم يفهم الضابط ما الذي يقصده عادل بكلامه .. وكان فضوله لمعرفة الحقيقة يتزايد .. لذلك قال وهو يميل بنصفه الأعلى للأمام :
– حسنا وماذا حصل بعد تلك المكالمة الغير متوقعة ؟
عاد عادل يسبح في بحر الذكريات ليكمل تلك القصة التي بدأها ..
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
أطلق حسن زميل عادل في العمل ضحكة سخرية وهو يقول لهذا الأخير :
– إذن هي قصة حب رومانسية ..
تضايق عادل من أسلوب حسن في تعليقه وقال له :
– اسمع يا حسن إذا كنت ستستمر في هذا الضحك فاتركني وشأني ..
ابتسم حسن وهو ينهض من مقعده ويجلس على طرف مكتب عادل وهو يقول :
– لا تغضب يا عزيزي .. ولكن ما تقوله شئ غريب .. كانت نظرة فاشتعل الحب في القلوب .. وكان قلقها عليك هو المفتاح الذي كسر حاجز صمتكما .. ويبدو أنها تمتلك الجرأة أكثر منك .. فبدلا من أن تحدثها بالهاتف كما فعلت هي تكتب لها رسائل ليكون الحبر هو رسول حبكما .. ألا تخشى يوما أن تقع رسالتك في يد أحد من أهلها ؟؟
ظل عادل صامتا في حين سأله حسن في اهتمام :
– وماذا كان رأي شقيقك مهند عندما أخبرته ؟
أجابه عادل بهدوء :
– لقد استقبل الموضوع بضحكة في بداية الأمر .. ثم سألني بحذر هل أفعل ذلك من أجل التسلية فقط .. أم أن لي أهداف أخرى ..
أمال حسن رأسه إلى عادل وهو يقول بصوت منخفض :
– فعلا يا عادل .. هل هي تسلية فقط ؟
ابتسم عادل في سخرية وهو يقول :
– تسلية ؟؟ هل تعتقدون أنني مراهق حتى أبحث عن التسلية ؟؟ اسمع يا حسن أعرف أن لك باع طويل في معاكسة الفتيات .. ولكن أنا لست من هذا النوع ..
ثم نهض من مكانه عندما سمع صوت مديره يناديه .. فتابعه حسن ببصره وهو يقول بصوت منخفض وفي سخرية :
– حسنا .. سنرى يا مجنون ليلى ..
ثم انصرف إلى عمله وهو يطلق من بين شفتيه صفيرا على لحن أغنية قديمة ..
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
– هل جننت يا عادل ؟؟
صرخ مهند بهذه العبارة في انفعال وهو يخاطب بها شقيقه الذي بدت عليه علامات التوتر قبل أن يقول ردا على شقيقه :
– ولماذا تعتبر ذلك جنونا ؟ ألا يحق لي أن أتزوج المرأة التي أحب ؟
– وماذا عن ابنة خالتك سميرة ؟؟ ألم تفكر فيها ؟؟
– هي ابنة خالتي وأنا أحترمها .. ولكن لست أنا الذي طلبتها للزواج ..
– عادل لا تجعل عواطفك هي التي تتحكم بك .. أنت رومانسي أكثر مما يجب .. هذه الأمور لا تؤخذ هكذا .. فكر بأهلك ووالدتك تحديدا .. فكر بسميرة التي تحبك وتنتظرك ..
– اسمع يا مهند .. أنت شقيقي وأنا أريد مساعدتك لا أن تكون ضدي .. أنت الوحيد الذي يستطيع أن يفهمني ويخرجني من هذا الارتباط الذي لم يكن لي يد فيه ..
– إنك ترتكب خطأ فادحا .. هل عرفت ليلى كما يجب ؟؟ هل أنت متأكد من مشاعرك نحوها ؟
– إنه ليس يوم أو يومان .. ولا حتى أسبوعا .. إنها ستة أشهر وأعتقد أنني استطعت أن أختبر مشاعري اتجاهها .. وقد عرفت تفكيرها وأسلوبها وهي تناسبني جدا ..
صمت مهند وقد أدرك أن عادل مصمم على رأيه .. فقال له بصوت حزين :
– حسنا .. سوف أبذل جهدي لمساعدتك .. ولكن عدني في البداية أن لا تتحدث مع أي فرد من العائلة عن هذا الموضوع قبل أن أخبرك ..
ارتسمت ملامح الاهتمام على وجه عادل وهو يسأل :
– ماذا تريد أن تفعل ؟
أجابه مهند في صوت يحمل نبرة من الألم :
– إن سميرة ابنة خالتي لا تستحق منك ذلك .. وهي التي تشغل تفكيري الآن ..
ثم غادر الغرفة وترك شقيقه لوحده الذي دفن وجهه بين راحتيه وقد شعر بالحيرة تعصف به
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
نهض الضابط من مقعده وهو يقول بدهشة :
– كلما اعتقدت أنني بدأت أفهم القصة .. تزداد غموضا بالنسبة لي .. من الواضح أنك علاقتك بشقيقك ممتازة جدا .. وأعترف أنني عجزت أن استنتج ماذا حدث بعد ذلك ..
قال له عادل وكأن شبح ابتسامة على وجهه :
– قل لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير !!
كان الضابط في ذلك الوقت يفتح الثلاجة الصغيرة الموضوعة في إحدى زوايا الغرفة ويخرج منها زجاجتي ماء ناول إحداها لعادل ، ثم عاد يجلس على مقعده وهو يقول :
– هل تعلم أنني اعتقدت في البداية أن ابنة خالتك هي التي ستعترض على تلك الخطبة التي تمت وأنتما صغار .. لكن الذي حدث هو أنك أنت الذي تريد تمزيق ذلك الرباط البالي الذي أغفل رأي كل طرف فيه ..
صمت عادل ولم يجب .. في حين كان الضابط يجرع زجاجة الماء بشكل سريع قبل أن يقول :
– هيا أكمل .. ماذا حدث بعد ذلك ؟؟
واستمر عادل يروي قصته لذلك الضابط الذي يجلس أمامه ..
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
قال حسن في عصبية :
– كلا يا عادل .. هذه الفتاة لا تناسبك .. لا تكسر خاطر ابنة خالتك ..
ابتسم عادل في هدوء وهو يقول :
– اسمع لقد تحدثت مع شقيقي حول هذا الموضوع منذ شهرين وهو قد تكفل بإيصال وجهة نظري لابنة خالتي .. إنها فتاة متعلمة وستفهمني بكل تأكيد .. وبذلك سيكون رأينا واحد أمام الأسرة ولن نضطر للمجاملات الزائفة ..
هز حسن رأسه نفيا وهي يقول بنفس عصبيته :
– عادل يا عزيزي فكر في المستقبل .. ماذا بعد الزواج .. هل يمكنك أن تعيش معها في وئام رغم اختلاف عاداتكما وطبيعة حياتكما ..
سأله عادل بقلق هذه المرة :
– ماذا دهاك يا حسن ؟ لماذا تحاول أن تضع الحواجز أمامي ؟
أجابه حسن بانفعال واضح :
– لا أدري .. ولكني أرى أنك متسرع ومندفع ..
هز عادل كتفية بحيرة وهو يقول :
– يبدو أنك منفعل هذا الصباح .. لا تقلق كثيرا علي ..
كاد حسن أن يقول شيئا ما ولكنه في النهاية تأفف وهو يقول :
– هذا جزائي لأني أهتم بك .. لا بأس افعل ما بدا لك ..
ثم انصرف تاركا عادل يسأل نفسه عن سبب هذا الانفعال الغريب ..
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
كان عادل عائدا إلى منزله بعد صلاة العشاء ، وكان من عادته في يوم الجمعة أن لا يصلي في المسجد القريب ، بل يذهب إلى المسجد الجامع ماشيا رغم أنه بعيد عن منزله .. وبينما هو يمشي في هدوء لاحظ من بعيد سيارة تقف أمام مدخل الشارع المؤدي إلى منزله .. حاول أن يتعرف على السيارة وصاحبها .. ولكنه لم يستطع أن يتبين ملامحها .. لكنه شاهد امرأة تخرج من السيارة ثم تدخل إلى الشارع .. في بداية الأمر أعتقد أنها تتجه إلى منزله .. ولكنها تجاوزته ووقفت عند بوابة منزل جاره .. منزل أبو ليلى .. ثم رآها تدخل بسرعة وكأنها تملك مفاتيح المنزل .. وانقبض صدر عادل لهذا المشهد .. ثم رأى تلك السيارة تستدير في مكانها قبل أن تنطلق مسرعة نحو طريقها .. كان عادل خلال هذه الفترة قد اقترب بما فيه الكفاية ليرى السيارة .. وكانت صدمته كبيرة عندما عرف صاحب تلك السيارة ..
لقد كان حسن زميله في العمل ..
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
– اللعين ..
صرخ الضابط بهذه العبارة في غضب وهو يضرب بقبضته على المكتب .. ثم سرعان ما شعر بالدهشة وهو ينظر إلى عادل الذي ظلت ملامحه الجامدة كما هي .. فاستطرد :
– هذا اللئيم استغلك وحاول الإيقاع بتلك الفتاة دون ضمير ..
خفض عادل بصره إلى الأرض وهو يقول :
– أو ربما هي استغلتني وحاولت الإيقاع به ..
بلغ الذهول مبلغه على وجه الضابط وهو يسأل عادل :
– هل تقصد أنها خدعتك ؟ حقيقة أنت لم تتحدث عنها كما ينبغي في قصتك .. إنك تحاول أن تضفي نوع من القدسية حول علاقتكما ببعض .. يبدو أنك ما زلت تحبها ..
حاول عادل أن يحتفظ بالهدوء وهو يقول للضابط :
– لقد قالت لي من أنت حتى تحاسبني .. صرخت فيها بأعلى صوتي .. هل أنتي التي من كان معه .. أجابت بلا مبالاة فلنفرض ذلك .. بألم سألتها لماذا يا ليلى ؟ .. قتلتني عندما قالت لي يا عادل لقد اكتشفت أني كنت واهمة معك .. لماذا الآن ؟؟ لماذا كانت تتجاوب معي .. لماذا كانت تخدعني .. لقد كانت تستحق جائزة الأوسكار على دورها المبدع معي ..
هذه المرة سالت دمعتان على خدي عادل تأثر لهما قلب الضباط كثيرا .. فنهض من مكانه وربت على كتفي عادل قبل أن يجلس على المقعد المقابل له وهو يقول :
– هون عليك إنها لا تستحق أن تبكي عليها .. هيا أخبرني ماذا حدث بعد ذلك ؟
حاول عادل أن يسترجع أنفاسه التي بدأت تتسارع ثم بدأ يكمل سرد قصته ..
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
مسح حسن خيط الدم الذي سال من طرف شفته العليا من قوة لطمة عادل الذي كانت شرارة الغضب تتطاير من عينيه وهو يقول :
– هيا تكلم أخبرني .. لماذا أنت صامت ؟
أشاح حسن بوجهه من أمام عادل وهو يقول باقتضاب :
– لم أكن أتوقع أنك ترغب في الزواج بها .. لقد كنت أريد أن أثبت لنفسي أنه لا يوجد حب رومانسي في هذا الزمن .. نعم لقد كانت معرفتي بك هي الطريق للوصول إليها .. ليس ذنبي أنها استجابت لي ..
كان عادل يهم بأن يلطمه مرة ثانية لكنه تماسك وقد احمر وجهه من الغضب :
– هل تعلم أنت إنسان حقير ..
قال له حسن بسخرية :
– بل أنت شخص ساذج .. انك تعيش في عالم من الأحلام الزائفة .. كان يجب عليك أن تشكرني لأني كشفت لك معدن هذه الفتاة ..
هنا لم يتمالك عادل نفسه ووجه ضربة قوية إلى فك حسن سقط على إثرها أرضا .. ثم اقترب عادل منه وهو يقول بقسوة :
– أنت ومن هم على شاكلتك من العار أن ينتسبوا إلى البشر .. أنتم إلى عالم الحيوان أقرب .. لقد كنت أيها الوغد تتسلى بعواطفي وتتلاعب بي وتطعنني من الخلف وأنت تضحك وتبتسم وكأنك لم تفعل شيئا ..
ثم بصق على وجهه قبل أن يغادر في نفس الوقت الذي مسح فيه حسن ذلك البصاق وهو يقول بغضب :
– إنك تستحق ما جرى لك أيها الرومانسي الغبي ..
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
سمع عادل طرقات باب غرفته فعرف أنه مهند فأذن له بالدخول وما أن وقعت عينا هذا الأخير على شقيقه عادل الذي بدت علامات الذبول على وجهه حتى قال له بإشفاق :
– أما زلت متأثرا حتى الآن .. اعتبرها تجربة تعلمت منها ..
تجاهل عادل كلامه وقال له بصوت مبحوح :
– لقد تحدثت والدتي أمس عن موضوع زواجي من ابنة خالتي ..
تغير لون وجه مهند وهو يسأله بارتباك :
– وماذا قلت لها ؟
– لم أقل لها شيئا .. هل نسيت أني وعدتك بأن لا أتكلم عن هذا الموضوع قبل أن أخبرك ؟
صمت مهند لبرهة وكأنه يجمع شجاعته .. ثم أخذ نفسا عميقا قبل أن يقول :
– حسنا سأخبرك بما حصل .. لقد تحدثت مع سميرة .. واستطعت بطريقة غير مباشرة أن أتحدث معها عن بعض العادات التقليدية التي لا تنفع في هذا الزمن .. ثم بالتدريج استطعت أن أوصل لها وجهة نظرك في الموضوع .. وكانت المفاجئة أنها تعلم ..
رفع عادل حاجبيه في دهشة ولاحظ مهند ذلك فاستطرد :
– لا أدري كيف عرفت .. ولكنها أخبرتني أنها تعرف أنك لا ترغب الزواج منها وأبدت احترامها لك وتقديرها لصراحتك .. وإن كانت تخشى موقف الأسرة من هكذا موقف .. ولقد اتفقت معها أنه يجب ألا نقف في طريق اختيارك وألا نجعل الأسرة حجرة عثر أمامك ..
ابتسم عادل في سخرية مريرة وهو يقول :
– لقد كانت هناك أحجار أخرى أكثر قسوة .. ولكن أخبرني على ماذا اتفقتما ؟
صمت مهند للحظات مترددا قبل أن يحسم أمره ويقول :
– لقد اتفقنا على أن نتزوج !!
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
لم يتمالك الضابط نفسه من الهتاف بصوت عالي :
– ماذا ؟؟ سيتزوجان ؟؟
أومأ عادل برأسه إيجابا دون تعليق .. فأسرع الضابط يقول بإعجاب :
– إنهما يريدان التضحية من أجلك ..
تفجرت الدموع من عيني عادل بغزارة في صمت .. وشعر الضابط بالألم يعتصر قلبه وهو يتساءل في نفسه عن أي مشاعر تختلج الآن في داخل عادل .. واحتراما لهذه الدموع المنسكبة احتفظ الضابط بصمته لبضعة دقائق ورغم ذلك لم تتوقف الدموع .. ورغم محاولته لأن يكون صوته حنونا إلى أنه خرج مبحوحا وهو يقول لعادل :
– كل شئ بقضاء الله وقدره ..
فقال عادل بنفس صوته الرتيب الخالي من الانفعال :
– ليبلوكم أيكم أحسن عملا ..
أعجب الضابط بهذا التعليق وشعر بالارتياح لسماعه .. فعاد يطلب من عادل أن يكمل قصته .. وفعلا واصل عادل رواية قصته ..
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
– مهند إن والدتي تصر أن أتزوج سميرة ..
قالها عادل في ضيق وهو ينظر لشقيقة الذي كان الانفعال واضح على وجهه وهو يقول :
– ولكنك يا عادل أنت لا ترغب في الزواج منها .. أليس كذلك ؟ حتى بعد أن انتهت علاقتك مع ليلى .. هيا أخبرني أليس ذلك صحيحا ؟
اقترب عادل من شقيقه ووضع كفه على كتفه وهو يقول بحنان :
– أنت تحبها يا مهند أليس كذلك ؟
رفع مهند بصره إلى عادل لكن الكلمات أبت أن تخرج فأعاد بصره إلى الأرض دون أن ينطق بحرف .. فقال له عادل بحزم :
– اسمع يا مهند سوف أذهب و أخبر والدتي بأنك تريد الزواج من سميرة لينتهي الموضوع ..
صاح مهند بارتياع :
– لا يا عادل لا تفعل .. أنت تعرف أن والدتي مريضة وأخشى عليها .. فهي تحبك ..
هنا حدث شئ عجيب .. فقد شعر عادل بنفسه يكاد ينفجر ألما وقد تفجرت الدموع من عينيه ثم يصرخ بصورة غير طبيعية :
– لماذا كلكم تضحون من أجلي .. لماذا كلكم تمنحوني الحب .. لقد كنت أنانيا وفكرت بنفسي فوقعت فريسة لحب اغتالني قبل أن أولد .. أنا لا أستحق منكم كل ذلك .. والآن أيضا تريد أيضا أن تضحي بحبك !! هل تعتقد أني أيضا بدون مشاعر .. هل تعتقد أني لا أعرف كيف أحب أو كيف أضحي ..
كان الموقف مفاجئا حتى أن مهند نظر إلى شقيقه مذهولا قبل أن يسرع إليه ويحاول تهدئته ولكنه فوجئ بعادل يدفعه ليسقطه أرضا وهو يقول بانفعال :
– اسمع يا مهند أنت تحب سميرة وسوف تتزوجها شئت أم أبيت هل تفهم .. أنا سأرفض زواجي من سميرة بكل قوة .. وسوف أذهب الآن أخبر والدتي بذلك ..
ظهر الفزع على وجه مهند فأسرع ينهض من مكانه وهو يمسك بذراع عادل قائلا :
– لا تتسرع يا عادل دعنا نناقش الموضوع بهدوء ..
ولكن يبدو أن عادل قد اتخذ قراره .. لذلك حاول أن يتخلص من مهند وهو يصيح بعنف :
– اتركني يا مهند .. لا تكن غبيا مثلي ..
ونظرا لأن مهند كان يمسك بعادل في قوة فقد اضطر ذلك الأخير أن يدفعه بعنف محاولا التخلص منه .. وقد كانت الدفعة من القوة بحيث أن مهند فقد توازنه وسقط للخلف ليرتطم رأسه بحافة زاوية المنضدة التي تتوسط الغرفة .. وصدرت من حنجرة مهند آهة واحدة بعدها خيم صمت مهيب على المكان ..
انفطر قلب عادل بقوة واقترب من مهند وهو ينادي على اسمه بحروف مرتعشة .. لكنه لم يسمع أي جواب .. اقترب منه أكثر وجثى على ركبتيه .. وعندما وضع يده تحت عنق مهند محاولا أن يرفعه من على الأرض شعر بسائل لزج يغطي يده .. لقد كان الدم ينزف بغزارة من مؤخرة رأس مهند .. وكان من الواضح أنه يلفظ أنفاسه الأخيرة ..
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
هذه المرة لم تنساب الدموع من عيني عادل فقط .. بل أيضا الضابط كانت دموعه تسيل على خديه وقد شعر بحرارتهما .. هل من الممكن أن يكون الحب سببا في كل هذه المشاكل والأحداث الأليمة ؟؟ تبا لهذا الحب إذن ..
حاول الضابط أن ينطق بكلمة ولو على سبيل المجاملة لكنه شعر بأن الحروف تفقد قدرتها على الخروج .. حاول أن يتظاهر بأن يملك زمام الموقف ولكنه لم يستطع .. أراد أن يسأل عادل عن صحة والدته .. ولكنه خشي أن يكون ذلك سببا في مزيدا من الألم .. ثم أخذ يفكر بموقف سميرة عندما يصل لها الخبر .. لقد أشفق على هذه الفتاة المسكينة التي ما زالت في بداية طريق الحياة والأمل والحب ..
وبدون أي إشارة كان الضابط يغادر الغرفة ليترك عادل وحيدا في ذلك الجو الصامت الذي لم يقطعه سوى صوت تلك المروحة المعلقة في سقف الغرفة والتي تدور بسرعة ثابتة .. وسقطت في هذه الأثناء دمعة أخيرة من عين عادل .. سقطت هذه المرة لتعانق بقعة من الدماء كانت في ثوبه .. إنها بقايا من دماء شقيقه مهند .