البداية كانت صرخة دوت داخل منزل الحاج " سيد شاهين " بقرية " منيل عروس " بمحافظة المنوفية .. ولأن الساعة كانت قد تجاوزت الرابعة فجرا وبالطبع كان الهدوء يخيم على القرية .. سمع هذه الصرخة كل من كانوا داخل المنزل وعدد كبير من الجيران .. ولم تمر ثوان حتى تجمع كل هؤلاء فى مكان الصرخة داخل حجرة نوم الحاجةv "إصلاح " زوجة صاحب المنزل ..
وبالطبع كانت هى صاحبة الصرخة .. وكانت تبكى بشدة وهى نائمة على سريرها من شدة الألم الذى أصاب قدمها كانت تنزف بشدة وعرف من زوجته أنها شعرت بفأر يقرضها من قدمها وهذا كان وصف الزوجة .. لكن الزوج كان خائفا إن تكون هذه القرصة من ثعبان سام ..أو أحد الزواحف الضارة وعلى الفور وبمساعدة أهل القرية قاموا بنقل زوجته إلي مستشفى أشمون وقرر الأطباء أن تمكث الحاجة " إصلاح " يومين فى المستشفى حتى تستقر حالتها وكى تتناول الأدوية بانتظام لأن حالتها كانت خطيرة جدا .
سم الفئران
مر يومان واستقرت حالة الزوجة .. وعادت إلي منزلها مرة أخرى .. وفى الوقت الذى تجمع فيه معظم أهالى القرية داخل منزل الحاج " سيد " للتهنئة بعودة زوجته كان يشغل تفكيره شىء واحد .. وهو كيف يحمى أسرته من هذه الزواحف .. وفى نفس اليوم قام الزوج بشراء سم الفئران . وبعد استعماله تبقت كمية ولم يكن أمام الحاج " سيد " إلا وضعها فى كيس وإخفائها داخل المنزل فى مكان بعيد عن أيدى الأطفال ونظر حوله .. فلم يجد سوى عبوة بها عدد من أكياس شاى فأخذه ووضع بداخله سم الفئران وأخفاه فى أحد الشقوق العالية بحجرة نوم زوجته حتى لا يتوصل إليه أحد الأطفال . بعد تخزين سم الفئران اطمئن الزوج وخرج إلى أرضه لرعايتها .. ومرت الأيام وعاد الهدوء إلي المنزل مرة أخرى وعادت الابتسامة من جديد على وجه كل من فى هذا المنزل الذى يمكث فيه الحاج " سيد " وزوجته وابناؤه وأحفاده ولكن هذه السعادة لم تدم وحدث الشىء الذى لم يتوقعه أحد .
حسن النية
تجمع كل أفراد الأسرة حول مائدة الإفطار الكل كان موجودا ماعدا الحاج " سيد " والذى توجه صباحا إلى أرضه تناولت الأسرة إفطارها فى سعادة .. وهم لا يعرفون ما يخبىء لهم القدر فى جبعته وبعد الإفطار ومثل كل يوم قامت الحاجة " إصلاح " لإعداد الشاى .. ودخلت إلي غرفتها تبحث عن "باكو" الشاى لكنها لم تجده .. وفى هذه اللحظة تذكرت أن الباكو قد فرغ بالأمس ونسيت ان تشترى آخر .. ولم يكن أمامها سوى البحث عن أى كيس به شاى حتى ولو كان قديما .. وأثناء بحثها رأت الكيس الذى يضعه الزوج فى أحد شقوق غرفتها فقامت بإخراجه من الشق واعتقدته أنه كيس شاى قديم ولأن سم الفئران قريب الشبه جدا من الشاى لم تشك الأم لحظة أن ما بداخل هذا الكيس أى شىء آخر سوى الشاى وبعد أن قامت بغلى الماء فى البراد وضعت كمية من سم الفئران داخل البراد وهى معتقدة أنه شايا .. ولم تمر دقائق حتى خرجت إلى أسرتها ومعها عدد من أكواب الشاى .. ولأن الأسرة عددها كبير . لم تكف هذه الأكواب كل أفراد الأسرة .. فقاموا بإعطاء الأطفال أولا .. وانتظر الكبار حتى فرغ الأطفال وقامت الأم بملء الأكواب مرة أخرى وأثناء تناول باقى أفراد الأسرة للشاى . فوجئوا بأحد الأطفال قد أصفر وجهه وأخذ يتصبب عرقا .. وصرخ من شدة الألم الموجود فى معدته ولم تمر ثوان حتى بكى طفلان آخران وهما " عبد الله " و " أمجاد " بشدة وقتها شعر الابن الأكبر " عبد اللطيف " والذى يعمل مدرسا أن هناك شىء كان موجودا فى الطعام أو الشاى وأصاب الأطفال فمنع بقية أفراد الأسرة من استكمال الشاى .. وحملوا الأطفال إلي المستشفى وأثناء الطريق شعر بقية أفراد الأسرة بنفس الأعراض وعندما وصلوا إلي المستشفى كانوا قد أصيبوا بالإغماء وعلى الفور عرف أطباء أنها حالة تسمم وبذلوا جهدا مكثفا لإنقاذ هذه الأسرة . لكن القدر قد اختار طفلين منهما وهما أصغر الأطفال " عبد الله " " سنتان " وأمجاد " ثلاث سنوات " حيث توفيا بعد الوصول إلي المستشفى بدقائق لأن جسدهما الصغير لم يحتمل هذا السم القاتل .
صدمة وذهول
قامت إدارة المستشفى بإبلاغ اللواء عطية مزروع مدير الإدارة العامة لمباحث المنوفية والذى انتقل على الفور . وفى هذه الأثناء انتشر خبر تسمم الأسرة فى القرية ووصل الخبر إلي الحاج " سيد " والذى أصابه الذهول .. وهرول إلى المستشفى للاطمئنان على أفراد أسرته لكنه صدم بخبر وفاة طفلين من أسرته وجلس داخل المستشفى يبكى بشدة ووصل فريق من رجال الشرطة بقيادة العميد عبد الخالق الشنهابى رئيس المباحث واستمعوا إلي أقوال الأب والمصابين وأثبتت التحريات التى قام بها الرائد أشرف شاهين رئيس مباحث مركز أشمون ومعاوناه عبد القادر قنديل وحاتم الشنوانى صدق روايتهم وتم تحويل المحضر إلي النيابة والتى صرحت بدفن جثتى الطفلين .
قرية الأحزان
تحولت قرية " منيل عروس " إلي سرادق عزاء كبير حزنا على الطفلين دلفنا إلي منزل الحاج " سيد " والذى جلس يروى لنا تفاصيل المأساة التى تعرضت لها أسرته قائلا : لو كنت أعرف أن سم الفئران سيتسبب فى هذه المصيبة لما كنت فكرت فى شرائه . ولكنه القدر فحزنى على أفراد أسرتى وخاصة الأطفال هو الذى دفعنى إلي شراء هذا السم ولم أكن أتخيل أن تتوصل زوجتى إلي المكان الموجود فيه ويختلط عليها الأمر وتعتقد أنه شايا وتستخدمه ياليتنى كنت شربت هذا الشاى بدلا من الأطفال .
الأطفال أنقذونا
وتلتقط " انتصار على " زوجة ابن الحاج " سيد " وأم الطفلة "أمجاد " واحدى الناجيات من الموت المحقق قائلة : لقد أنقذ هذين الطفلين حياتنا جميعا . فلولا ظهور أعراض التسمم عليهما أثناء بدئنا فى شرب الشاى لكنا شربنا الكوب بأكمله وحدث لنا مثل ما حدث للطفلين .. صورة طفلتى وهى تتوجع قبل وفاتها لا يفارق ذاكرتى أبدا .. لا أتخيل أن أعيش لحظة واحدة بدون وجودها فى حياتى لقد كانت طفلة ذكية جدا ، رغم صغر سنها .. وكانت تجلس بجوارى باستمرار ولا تفارقنى أبدا . نفس المذاق وتحدثنا إلي الحاجة " إصلاح " جدة الطفلتين وإحدى الناجيات من الموت والتى ظهر عليها الحزن الشديد وأيضا الذهول وفى بداية حديثنا معها بادرناها بسؤال .. كيف اختلط عليها شكل الشاى وسم الفئران ؟ وكيف لم تلاحظ الفرق أثناء الغليان ؟ .. فأجابتنا قائلة : للأسف لا فرق فى الشكل بين سم الفئران والشاى .. وأيضا لم أجد فرقا فى الطعم فالمذاق قريب جدا ولأن الاختلاف بسيط اعتقدنا جميعا ان الشاى " كرف " كما نطلق عليه عندما يختلط طعم الشاى بأى شىء آخر . وتواصل الجدة حديثها قائلة : ياليتنى كنت شربت الشاى قبل الأطفال ولكنه القدر الذى لا يستطيع أحد الإفلات منه مهما كان حذره . ويلتقط ابنها " عبد اللطيف " أطراف الحديث قائلا : كنت أتمنى ان أكون بجوار ابنتى قبل وفاتها .. لكننى كنت فى إغماء وعندما أفقت أخبروننى بأن ابنتى فارقت الحياة . ولا أعرف كيف سأكمل حياتى وأواصلها بشكل طبيعى وهى ليست موجودة فيها . وفى النهاية التقينا مع " إمام العروس " عمدة قرية " منيل العروس " والذى أكد بأن الحادث قضاء وقدر ويجب على كل أب وأم أن ينبها لأى مبيد حشرى عندهم حتى لا تتكرر هذه المأساة مرة أخرى .