أطّل علينا الشهر الفضيل، شهر الطاعة والعبادة والتوّجه إلى الله سبحانه ومن هذا المنطلق سنذهب وإياكم في رحاب آية من آيات كتاب الله العزيز، لنرى مجمل ما قيل في التفاسير وما أجمع عليه جمع العلماء، لنكن على بينةٍ من أمرنا وسنحاول الإيجاز قدر المستطاع، والله ولي التوفيق.
وفي بداية الأمر، فإن القرآن العظيم عندما نزل على سيدنا محمد بواسطة الوحي جبريل، كان بعضه ينزل لبيان قضايا أو ذكر حوادث الأمم السابقة، وبعضه نزل بسبب حدوث واقعة معينة أو إجابة لأسئلة كان يُسأل عنها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبعضه نزل بدون سبب وهو أكثر القرآن، وأسباب النزول مهمة لمعرفة معنى الآية ومضمونها، ولكن السؤال هنا، لماذا نجد كتب تفسير القرآن الكريم، والإختلاف في التفسير، لماذا لم يفسره النبي محمد صلى الله عليه وسلم ؟ فالجواب هو أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قد فسر للناس في عصره ما يحتاجون إلى تفسيره من القرآن الكريم وبين لهم ما يحتاجون إلى تبيينه، ولم يفسر القرآن كاملاً في ذلك العصر نظراً لعدم حاجة الناس لذلك، فالصحابة رضوان الله عليهم سليقتهم ومشاهدتهم لمراحل الدعوة ومعرفة أسباب نزول القرآن لا يحتاجون في الغالب لتفسير القرآن، بالإضافة إلى أنهم أهل اللغة والفصاحة والبلاغة، ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبين لهم ما أشكل عليهم وكذلك كان بعض أصحابه، ولهذا ظهر المفسرون وكتب التفسير، ومن أشهرها : تفسير ابن كثير، والطبري والقرطبي والبغوي وابن الجوزي والتحرير والتنوير وغيرها.
سنتناول في هذا الموضوع آية 183 من سورة البقرة، قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، يقول تعالى مخاطباً للمؤمنين من هذه الأمة وآمراً لهم بالصيام، والصيام في اللغة : الإمساك والكف عن الشيء، وفي الشرع : الإمساك عن الأكل والشرب وغشيان النساء من الفجر إلى المغرب إحتساباً لله، وإعداداً وتطهيراً للنفس، وتهيئة لها لتقوى الله بالمراقبة له وتربية الإرادة على كبح جماح الشهوات، ليقوى صاحبها على ترك المضار والمحرمات.
كما كُتِب علَى الذِين من قَبلِكُم، أي أنه كُتِب على أهل الملل السابقة فكان ركناً من كُل دين؛ لأنه من أقوى العبادات وأعظم ذرائع التهذيب، وفي إعلام الله تعالى لنا بأنه فرضه علينا كما فرضه على الذين من قبلنا إشعار بوحدة الدين أصوله ومقصده، وتأكيد لأمر هذه الفرضية وترغيب فيها.
وأما أحوال الصيام فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، وصام عاشوراء، ثم إن الله فرض عليه الصيام ، وأنزل الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ). إلى قوله : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) فكان من شاء صام، ومن شاء أطعم مسكيناً، فأجزأ ذلك عنه. ثم إن الله عز وجل أنزل الآية الأخرى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) إلى قوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)، فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح ورخص فيه للمريض والمسافر، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام، فهذان حالان.
قال : وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا امتنعوا، ثم إن رجلاً من الأنصار يقال له: صرمة، كان يعمل صائماً حتى أمسى، فجاء إلى أهله فصلى العشاء، ثم نام فلم يأكل ولم يشرب، حتى أصبح فأصبح صائماً، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جهد جهداً شديداً، فقال: مالي أراك قد جهدت جهداً شديداً ؟ قال : يا رسول الله، إني عملت أمس فجئت حين جئت فألقيت نفسي فنمت فأصبحت حين أصبحت صائماً. قال: وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فأنزل الله عز وجل : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ) إلى قوله: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ).
هذه الأحوال مذكورة في حديث أخرجه أبو داوود في سننه، والحاكم في مستدركه، من حديث المسعودي.
وأجمع العلماء على أن صيام رمضان فُرِض في شهر شعبان في السنة الثانية من الهجرة في المدينة المنورة، وصام رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات، ويعتبر الصوم وصلة إلى التقوى، لما فيه من قهر النفس وكسر الشهوات، وقيل لعلكم تحذرون عن الشهوات من الأكل والشرب، والجماع.
وإلى جانب الفوائد الروحانية للصيام، فهناك فوائد جسدية أيضاً كما أجمع جمع من العلماء وأهل الطب، وقد أجمع خبراء طبيون متخصصون في علوم التغذية بأن للصيام فوائد علاجية كثيرة، وكانوا يستخدمونه في العصور قبل بزوغ الإسلام، فقد اكتشف عالِم تغذية أمريكي بأن الصيام يُحدِثُ تجديداً لـ 10% من خلايا الجسم، في العُشر الأول من رمضان، وخلال الأيام العشرة التي تليها يحدث تجديداً بنسبة 66%، أما العشرة الأخيرة فيحدث تجديد لكامل خلايا الجسم.
وأثبت كذلك، أن التركيز يكون في أعلى حالاته في نهار رمضان، وتزيد المناعة عشرة أضعاف المناعة العادية للإنسان، وكان يُعتقَد بأن هناك حالات مرضية تتأثر سلباً بالصوم، لكن على العكس، فتم اكتشاف أن صوم رمضان يساعد في تركيز أملاح الصوديوم في الكلى، وهذه الأملاح تُذِيب الحصوات التي تتكون في الكلى، خصوصاً إذا ما تم تناول كميات كافية من السوائل.
ومن الجدير بالذكر بأن القلب يرتاح كثيراً عند الصوم، إذ تنخفض ضرباته إلى 60 ضربة في الدقيقة وهذا يعني أنه يوفر مجهوداً يعادل 28800 دقة كل 24 ساعة. وهناك قاعدة تقول أن الجسم يعطي من مخزون المواد العضوية، ثم غير العضوية، أي أنه يعطي أولاً من السكريات، ثم الدسم وبعض البروتين، لكنه لا يفرط بسهولة في المعادن وما يشابهها. فالحديد المتخلّف عن حطام كريات الدم الحمراء القديمة يتم تجميعه وتخزينه في الكبد من جديد، ليؤخذ منه عند الحاجة، لهذا لا يحدث فقر الدم المتسبب عن نقص الحديد في أثناء الصوم.
وللصيام فوائد عديدة جداً لا حصر لها وما زال الطب يكتشف ذلك، ولا يتسع المقام لذكر كل فوائده، وهناك شهادات عبر العصور القديمة وحتى الحديثة بأن الصيام كان يستخدم كطريقة للعلاج، وأن المصريون القدماء كانوا يصومون ثلاث أيام من كل شهر وصاموا فترة طويلة للتخلص من مرض الزهري وهذا ما ذكره المؤرخ الإغريقي “هيرودت”، إذاً فالصيام تزكية للنفس، وتطهير للروح، وراحة للجسد. فالحمدلله الذي أنعم علينا برمضان وصيامه، اللهم أعنّا على صيامه.