احفظيها يا ابنتي – قصة
أطلقت ساعة الحائط دقاتها الاثنتي عشر في بهو المنزل؛ لتصل إلى مسامع (عائشة)، التي شارفت على الانتهاء من إعداد طعام الغداء، وما أن أنهت الساعة دقاتها حتى تلاها رنين الهاتف، فأسرعت (عائشة) تجيبه ..
-” نعم”.
-” السلام عليكم ورحمة الله وبركاته”.
تعرفت (عائشة) صوت زوجها (نديم) على الفور..
-” وعليك السلام ورحمة الله وبركاته .. خيرًا يا (أبا محمد) “.
-” أردت أن أخبرك بأني سأضطر للتأخر عن موعد الغداء .. فهلا اصطحبت (مروة) من مدرستها!”.
-” كما تريد يا (أبا محمد) .. اهتم بنفسك جيدًا”.
أغلقت (عائشة) السماعة بعد أن تبادلت وإياه التحية، ورفعت ناظرها إلى ساعة الحائط التي أشارت عقاربها إلى الثانية عشر وخمس دقائق، رأت أنها لا تزال تملك بعض الوقت قبل موعد انصراف ابنتها (مروة) من المدرسة، فاتجهت إلى الغرف تعيد تنظيفها من الأتربة والغبار، كما قامت بجمع الملابس المتسخة لأبنائها في سلة ملابس وضعتها إلى جوار الغسالة، على أن تغسلها بعد عودتها وابنتها إلى المنزل..
ارتدت (عائشة) ملابسها وحملت حقيبة يدها الصغيرة، واتجهت إلى مربض سيارتها،وأدارت محرّكها وانتظرت لحظات يسخن فيها المحرك – فقّلما كانت تقود سيارتها-، وإلى أن يحين ذلك .. جالت ببصرها في السيارة، هنا .. لمحت شيئًا يبرز من تحت المقعد المجاور لها، فانحنت تلتقطه لتتبين هويته، كان ألبومًا صغيرًا حُشر أسفل المقعد ، فتناولته بيد مرتعشة،كانت تعلم ما يحويه ذاك الألبوم، وكثيرًا ما تجنبت رؤيته، لكن قُدر لها أن يقع بين يديها.. لم تكن ترغب في فتحه مجدَّدًا، إلا أن هاجسًا قويًّا دفعها لتقليب صفحاته، الواحدة تلو الأخرى، ازدادت ارتعاشة يديها و خفقات قلبها مع آخر صفحة للألبوم، صفحة ضمت صورة ابنتها (ريم) …
****** ******
-” أسرعي يا أمي .. سنتأخر عن المدرسة”.
نطقت (ريم) ابنة العاشرة بعبارتها تلك ؛ تستحث أمها للإسراع في الخروج من غرفتها، وبالفعل غادرت (عائشة) غرفتها وقد تأهبت لإيصال ابنتيها إلى مدرستهما، كانت (ريم) في أسعد لحظاتها؛ فاليوم تقام حفلة في مدرستها، تشارك هي في فعاليّاتها.. لن تنسى العائلة الليلة الماضية، إذ لم تترك (ريم) أحدًا إلا وقصت له الدور الذي ستقوم به في هذا اليوم، حتى أنها نامت أثناء سردها للموضوع على مسامع أختها (مروة)..
صعدت (عائشة) السيارة ودعت الصغيرتين للركوب، احتلت (ريم) المقعد المجاور لأمها، والمقعد الخلفي كان من نصيب (مروة)، ولما تأكدت من صعودهما ، أدارت هي المحرك وانطلقت بالسيارة، كان الشارع الرئيس بالمدينة مزدحمًا كعادته، مما جعل (ريم) تتململ في مقعدها وتتذمر بين الحين والآخر، خوف أن تتأخر على المدرسة في أهم يوم لها، فتقول:-
-” كل هذا لأنك تأخَّرت في الاستيقاظ اليوم يا أمي”.
التفتت (عائشة) إلى ابنتها وقالت:-
-” أنا لم أتأخر في النوم كما تقولين .. ثم إن الوقت مازال مبكِّرًا على أن يدقّ جرس مدرستك.. فلم أنت مستعجلة”.
أمسكت (ريم) بساعد أمها تهزّها قائلة:-
-” أسرعي يا أمي .. أسرعي أرجوك”.
قالت (عائشة) بحزم:-
-” كفى يا (ريم) .. كوني فتاة عاقلة”.
تراجعت (ريم) وغاصت في مقعدها؛ بعد أن لمست الصرامة في حديث أمها، وأرسلت عينيها تحصي السيارات المجاورة، في حين تقدمت (مروة) من مقعد أختها وقالت:-
-“(ريم) .. لم لا تلبسين حزام الأمان ؟”.
مطت (ريم) شفتيها وقالت:-
-” لا شأن لك بذلك .. ثم ماما لا تلبس الحزام فلم ألبسه أنا..؟”.
التفتت (مروة) إلى أمها وقالت:-
-” ماما .. لم لا تلبسين الحزام .. دائمًا ما يقول بابا أن حزام الأمان مهم جدًا..؟”.
أجابت (عائشة) – بلامبالاة – :-
-” أنا أجيد القيادة ولا أحتاج إلى حزام الأمان”.
تراجعت (مروة) إلى مقعدها وهي تقول:-
-” لكن يا ماما .. بالأمس زارتنا شرطية في المدرسة، وقالت أن قواعد المرور مهمة للجميع، وحدَّثتنا عن بعضها .. مثل: عدم اللعب بالقرب من الشارع، وأننا إذا أردنا أن نعبر الطريق علينا أن نلتفت يسارًا ثم يمينًا ثم يسارًا ، وأن لا نجري في الشارع .. بل نسير بهدوء من المكان المخصص لنا”.
لم تجد (مروة) تعليقًا على ما قالت ، فآثرت الصمت ثانية، فهي تعلم أن والدتها لا تحب الحديث عن قوانين المرور، التي لم يسبق لها أن التزمت بإحداها، على الرغم من نصح زوجها المتكرر بذلك، وتابعت السيارة طريقها بين الزحام نحو المدرسة الابتدائية العليا..وعلى بوابة المدرسة ودّعت (عائشة) ابنتها (ريم) متمنّية لها يوم رائعًا، والتي أكّدت على أمها أنها ستستقلّ الحافلة في طريق العودة..
****** ******
جرت عقارب الساعة بسرعة لتعلن عن انتهاء الدوام الرسمي للمدرسة، تدافعت على إثرها الطالبات إلى الحافلات المصطفة في الباحة الخلفية للمدرسة، ووقفت (ريم) إلى جانب الحافلة تحدث زميلتيها ريثما يحين وقت المغادرة، بعدها بفترة وجيزة صعد السائق إلى الحافلة وهو يطلب من الجميع الصعود، فودَّعت (ريم) زميلتيها وهمَّت بالركوب، إلا أن (علا) – صديقتها الحميمة – تشبثت بها وقالت:-
-” ابقي معي يا (ريم) .. فهناك فترة تأخير لجماعة الموسيقى.. ولابد أننا سنستمتع معًا!”.
حاولت (ريم) التملص بحجة أنها لم تخبر والدتها بالأمر، إلا أن (علا) أصرت على رأيها، وأنها تستطيع الاتصال بوالدتها من غرفة الأخصائية وتخبرها بذلك، ومع إلحاح (علا) وتأنيب السائق تنحّت (ريم) عن الحافلة، لـيُغلق الباب وتنطلق الحافلة في رحلة العودة إلى المنازل، في الوقت الذي تشابكت فيه أصابع الصغيرتين وسارتا جنبًا إلى جنب حيث غرفة الأخصائية..
كانت جميع غرف الإدارة مقفلة، مما أشعر (ريم) بشيء من الارتباك والخوف، وقالت:-
-” ماذا سنفعل الآن .. الغرف مقفلة .. كيف سأخبر أمي بالأمر..؟!”.
أمسكت صديقتها براحة يدها، تشدّها معها إلى غرفة الموسيقى قائلة:-
-” لا عليك .. بعد أن تنتهي التدريبات سنطلب من المعلمة أن تساعدنا”.
وبالفعل اتجهتا إلى غرفة الموسيقى، وجلست (ريم) على المقعد بينما كانت (علا) تشارك بقية زميلاتها التدريب، ولما طال الأمر بعض الشيء وازداد خوف (ريم) أكثر فأكثر، اتجهت إلى المعلمة وأخبرتها بأنها قد تأخرت دون إذن والدتها، فأجابت المعلمة:-
-” كفاك إزعاجًا .. إما أن تجلسي صامتة أو تغادري هذا المكان”.
وأشاحت بوجهها رافضة أي نقاش، عادت (ريم) إلى مقعدها، وقررت الانتظار قليلاً، إلا أنها تذكرت والدتها وغضبها إن علمت بتصرّفها هذا، لذا غادرت الغرفة واتّجهت إلى البوّابة الرئيسة للمدرسة، لحقت (علا) (بريم) بعد أن أخذت إذنًا بالمغادرة واستوقفتها قائلة:-
-” إلى أين ستذهبين يا (ريم) .؟!”.
-” يجب أن أعود إلى المنزل فورًا وإلا غضبت مني أمي”.
اعترضت (علا) طريقها قائلة:-
-” لكنه بعيد جدًّا ..”.
وأمسكت بيدها مستطردة:-
-” دعينا نعود إلى الغرفة ونطلب من المعلمة أن تتصل بوالدتك ..”.
هزت (ريم) رأسها نفيًا وقالت:-
-” لقد أذنت لي المعلمة بالمغادرة .. ثم إنني أستطيع العودة إلى البيت سيرًا على الأقدام، فأنا أحفظ الطريق جيِّدًا”.
حاولت (علا) منعها إلا أنها لم تستطع، فعبرت (ريم) البوابة دون أن مساءلة من الحارس الذي غاب في غرفته، في حين وقفت (علا) خلف البوابة ترقب خطوات صديقتها الواثقة نحو الشارع ، إن أشد ما تخشاه (علا) هو أن تقطع شارعًا لوحدها، وها هي صديقتها تلتفت ذات اليمين لتتأكد من خلو الطريق، بدت سيارة تتقدم من بعد، فشدت حقيبتها إليها وجرت بأقصى ما تملك .. و..
ارتفع صرير عجلات سيارة مسرعة ضغط صاحبها الفرامل على عجل، مشوبًا بصراخ فتاة صغيرة أخفت وجهها بين كفيها خوفًا..
****** ******
دوى رنين هاتف (عائشة) المتحرك في أذنيها، ليوقظها من لجة أفكارها وذكرياتها التي حاولت جاهدة نسيانها، فوضعت الألبوم من يدها على المقعد المجاور، وألقت نظرة سريعة على الرقم المسجل على شاشة الهاتف، كان الرقم لصديقة لها، تجاهلته و أحكمت حزام الأمان حولها وانطلقت بالسيارة متّجهة إلى مدرسة ابنتها (مروة) .. مرّ على ذاك الحادث قرابة السنتين، إلا أنه ظل حيًّا في ذاكرتها .. حيًّا بمشاهده المروعة، بالحقيبة التي تناثرت منها الكتب في الشارع .. بوجه ابنتها التي شوّهت قساوة الإسفلت معالمه، أدركت حينها أن ما يردده العاملون في قسم المرور ليس بالهراء الذي كانت تظن ..
وبعد دقائق معدودة وصلت (عائشة) إلى المدرسة، وصعدت (مروة) إلى جانبها بعد أن ألقت بحقيبتها على المقعد الخلفي، وغادرتا المدرسة.. فقالت (عائشة) لابنتها:-
-” اربطي حزام الأمان يا (مروة)”.
فعلت (مروة) كما أخبرتها أمها، وهي تقول:-
-” هل تعلمين يا أمي أن الشرطية (بهاء) قامت بزيارتنا اليوم للمرة الثانية”.
-“حقَّا .. وماذا قالت..؟”.
-” لقد حدّثتنا عن قواعد أخرى للمرور ..وأخبرتنا أنه لا يكفي أن نلتفت حولنا عندما نريد قطع الشارع، بل علينا أن نختار المكان المخصص لعبور المشاة، وقد شاهدناها على الطبيعة..”.
أومأت (عائشة) برأسها ومسحت على رأس ابنتها وقالت:-
-” احفظيها يا ابنتي .. احفظي كل كلمة قيلت لك عن قواعد المرور .. وطبّقيها جميعها.”.