العبودية ، الخنوع ، الاستبداد ، التزلُّف ، و التملُّق ، مفردات ارتبطت في أذهاننا بطواغيت الحكم في العالم العربي و أزلامهم الداعمين لهم و المرتزقين من ورائهم ، و خاصةً بعد الربيع العربي الذي أجَّج تلك المفردات و مُرادفاتها و جعلها تتداول بكثرة على الألسن في كافة الدول العربية .
و لكن من يتأمل حياته اليومية ، يجد أن هذه المفردات ليست حكراً على الأنظمة السياسية الفاسدة و حسب ، بل سيجدها متفشّيةً أيضاً في أروقة العمل و الوظائف التي ينخرها الفساد الإداري كما ينخر السوس الخشب ، فتتبدَّل المبادئ ، و تتغيّر القناعات ، و نجد مَنْ لا يفقه شيئاً يعتلي قمَّة الهرم ، و في المُقابل ، نجدُ صاحب المقوّمات و المؤهلات و الإمكانيات يتذيَّل الهرم ، و يتعرَّض للتهميش و التحجيم عنوةً ، فينتهج الكثير من أصحاب السُلطة نهجاً شخصياً واضحاً أو غير واضح ، و يمزجون علاقاتهم الشخصية بالعمل ، و يُقدّمون مصالحهم الشخصية على مصلحة العمل ، فنجد هذا المُدير يجعل الأولوية في التعيين أو الترقيات أو العلاوات أو الانتدابات أو الدورات أو الحوافز و المكافآت لأقربائه أو من يعزّون عليه والذين قام بتعيينهم في المُنشأة منذ وقتٍ مبكّر دون كفاءةٍ و دون مؤهلٍ علمي ، و جَعَلهم يسرحون و يمرحون فيها و كأنها وقفٌ للعائلة أو مزرعة أبقارٍ قد ورثوه عن أحد أجدادهم ، ناهيك عن استغلاله لموظفيه في مشاويره الخاصة ، كمراجعة الدوائر الحكومية و البنوك نيابةً عنه ، و إكرامه للموظف الذي يقوم بهذه المشاوير بمكافآتٍ ماديةٍ أو عينيةٍ أو كلتيهما تُصرف من مخصَّصات العمل ، و في المقابل ، يُحرَم ذوي الكفاءة من أيّ حوافزٍ قد تعود عليهم بالتحفيز و تُعزِّز ولائهم و تفانيهم لعملهم.
دعونا نُعرِّج أيضاً على بيئات العمل و نقتفي أثرها ، فنجد الكثير من المنشآت التي تدَّعي أنها من أفضل بيئات العمل في الوطن يعاملون موظفيهم بتحجيمٍ و تقييدٍ و قد يصل بهم الأمر للمعاملة اللاأخلاقية ، و التلفُّظ بألفاظٍ لا تليق أنْ تصدر من مسئولٍ تجاه موظفيه ، و لا أن تُطلَق في بيئة عملٍ مُحترمةٍ ، و قد يصل الحال إلى التنفير و مطالبة الموظفين بأمورٍ غير مُبَرَّرة كعدم استخدام الجوال نهائياً أو عدم الخروج ساعة غداء أو عدم تحدُّث الموظفين فيما بينهم أو إرغامهم على العمل ساعاتٍ إضافية دون احتساب أيّ بدلٍ إضافي !!
ما يوغر الصدر و يملأه بالحَنَق أن يكون المعيار الحقيقي للتفاضل هي الواسطة في كثير من الجهات ، أما الكفاءة و المؤهلات العلمية ما هي إلا شعارٌ قديم قد ضاع بين الشعارات و المُثُل المُكَدَّسة على الأرفف أو المُعلَّقة على الجدران و التي تراكم عليها غبار الزمن ، فكم من شابٍ و فتاةٍ تحطَّمت أحلامهم و آمالهم العريضة على صخرة الواقع ، و كم من مُؤَهَلٍ كانت اللقمة سائغة في فمه و خطفها الطير قبل أن تصل إلى حلقومه ، فتصدَّع قلبه جرّاء الإحباط و اليأس الذي اكتساءه ، و كم من متميّزٍ نال الشهادة الجامعية و عاش قصة حبٍ كبيرة مع وسادته ، ناهيك عن الفتيات الجامعيات اللاتي يصعب حصرهن .
ما يؤلم أن هذا الأمر ألقى بظلاله أيضاً على الأجيال الحالية و أصبح يقضّ مضاجعهم ، فتجد نبرة اليأس واضحة في أصواتهم عندما يقرنون أنفسهم بإخوانهم و أخواتهم و معارفهم الذين سبقوهم بالتخرج من الجامعات و لم يجدون مقاعد وظيفيَّة يقتاتون منها ، فنجد أن أبسط سؤالٍ قد يطلقونه : (( لِمَ نبذل و نجتهد ؟؟.. هل سننال نصيباً أفضل من أسلافنا ؟؟ ))
سوف أختم الموضوع بهذا الموقف الحزين الذي واجهته . في أحد أيام الجمعة ، خرجتُ من المسجد متجهاً للسوبر ماركت للتبضّع ، و أثناء تجولي بين أروقة السوق ، لمحتُ أحد الشُبّان السعوديين الذين يعملون هناك في صفّ العصائر و ترتيب الخضار و الفواكه ، و شعرتُ أن ملامحه مألوفة بالنسبة لي ، و وجدت في نظراته لي أيضاً أُلفة ، و بعد تمعُّنٍ ، عرفته و عرفني و تبادلنا السلام و التحية ، و اكتشفتُ أنه زميل دراسةٍ لي من أيام المتوسطة ، و استغربتُ أن أجد هذا الرجل في هذا المكان لأنه كان وقتئذٍ من المتفوقين دراسياً ، فدفعني فضولي أن أسأله : ما الذي آل بك إلى هذا المآل ؟؟ أجابني : الواسطة يا صديقي قضت على آمالي و بدَّدت كل جهدي و تعبي الدراسي ، فسألته : كيف ؟؟.. قال : عندما تخرَّجنا من الثانوية ذهبتُ أنا و مجموعة من الزملاء للتسجيل في أحد الجامعات ، و كنتُ أنا أعلاهم من حيث النسبة المئوية ، و كنتُ واثقاً بأنني مقبول في الجامعة لا محالة ، و كان البقية في حالة توترٍ و قلقٍ خشية عدم قبولهم ، و أنا أتندَّر عليهم لخوفهم و قلقهم هذا ، و عندما ظَهَرتْ أسماء المقبولين في الجامعة ، وجدتُ أسماء مَنْ كانت نسبهم مُتدنّية و كنتُ أتندَّر عليهم و لم أجدُ اسمي !! ، و منذ ذلك اليوم و شهادة الثانوية العامة تقبع تحت كرسي السائق في سيارتي ، و بقيت في موضعها لمدة ثماني سنوات ، و لم أُخرجها إلّا قبل أسبوعٍ من الآن لعدم الحاجة لها !!
حاولتُ أن أُقنع هذا الرجل في عُجالةٍ أن يبقى في عمله و أن يبحث له عن فرصة دراسية تخوّله لنيل شهادةٍ تُسهِم في حصوله على وظيفة أعلى تضمن له مستقبله و مستقبل أبناءه لكن وجدتُ أنَّ محاولاتي كلها باءت بالفشل ، فاليأس قد تمكّن منه و انتهت صلاحية الأمل في داخله كأيّ سلعة يقوم بصفّها على أرفف السوق الذي يعمل به ، و هذا فيضٌ من غيض .
رائد البغلي
RaedAAlBaghli@
الصفحة الرسمية على فيس بوك
اضغط هنا
اللهم اني اعوذ بك من اليأس ومن ظلم الواسطة ويبقى السؤال بلا اجابة ماذا علينا ان نفعل لنحل هذه المشكلة المصيبة اننا اعتدنا سماع مثل هذه القصص لدرجة انها اصبحت جزء من ثقافتنا