إن كنت تعتقد أن الأسلحة الكيميائية حديثة المنشأ، فتاريخها يعود إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى.
شهدت هذه الحرب استخدام العديد من الغازات السامة المحرمة دوليًا، كغاز الكلور والخردل. فكيف انتشرت هذه الأسلحة؟ وما هو الوجه الآخر من الحرب الكيميائية؟
لهذا السبب عُرفت الحرب العالمية الأولى بحرب الكيميائيين!
في صيف عام 1915، كانت قوات الحلفاء في أيبرس ببلجيكا تستمع بالضوء الدافئ قبل غروب الشمس والرياح الشمالية الشرقية، قبل أن يسمعوا صوت المدفعية. وعندما استعد الجنود للدفاع عن أنفسهم، حدث شيء لم يكن بالحسبان!
امتلأ الهواء في محيطهم فجأة بضباب كثيف أصفر وأخضر. توقع الجنود اقتحام القوات الألمانية المنطقة، لكن الشيء الوحيد الذي اندفع إليهم كان المزيد من الغاز القوي واللاذع.
وفجأة، غرقت الخنادق الفرنسية بسحابة سامة لامعة.
كان اليوم الموصوف أعلاه هو 22 أبريل 1915. وقد غيّر هذا اليوم طريقة خوض “الحرب العظمى” أو “الحرب العالمية الأولى”.
كما أنه أكسب الصراع لقبًا جديدًا – “الحرب الكيميائية”. حيث استغلت بعض الأطراف المشاركة في الحرب امتلاكها أسلحة كيميائية تعتبر محرّمة اليوم لإضعاف قوة الطرف الآخر.
بداية الحرب الكيميائية
على الرغم من الحظر والتشديد على منع إساءة استخدام السموم أو الأسلحة السامة أو المقذوفات، ووجود معاهدات عديدة كإعلان بروكسيل واتفاقية لاهاي، لكن بعض الأطراف التي امتلكت الأسلحة الكيميائية لم تُنصت لذلك.
فقدت وجدت القيادة الألمانية ثغرات عديدة في هذه المعاهدات تمكنت من خلالها استخدام بعض الأسلحة المحرمة، مثل الغاز المسيل للدموع، والتي اعتبروها مجرد دخان على خصومهم.
صعّد الألمان من لعبتهم في معركة إيبرس الثانية. حيث قامت القوات بزرع أسطوانات الغاز ذات الصمامات باتجاه أعدائها وانتظرت تغيّر اتجاه الريح.
بمجرد أن حدث ذلك، بدأت بإطلاق الغاز من 5730 أسطوانة مضغوطة من الغاز السام الأخضر والأصفر.
هذا السلاح الجديد الغريب ترك قوات الحلفاء في ذهول كبير، وكان عليهم تحديد ما يتم استخدامهم ليتمكنوا من ردعه.
تم استدعاء الكيميائيين في الموقع للكشف عن تكوين الغاز. نظرًا لأن الغازات لا تبقى في مكان ما لفترة طويلة، فإن الدليل المادي الوحيد الذي يجب على العلماء اختباره هو اللون الأسود المخضر الذي تُرك خلفه الأزرار الفضية والأبازيم وشارات الجنود الفرنسيين والبريطانيين والكنديين. وأكدت الآثار أن القوات تعرضت لهجوم بغاز الكلور (Cl2).
لم تتوقف الأمور عند هذا الحد، فقد شهدت الحرب العالمية الأولى استخدام أنواع مختلفة من الأسلحة الكيميائية والغازات السامة.
على سبيل المثال، رد الجيش البريطاني بقنابل الكلور السامة، ثم بدأ الألمان باستخدام غاز الفوسجين الذي كان أقوى بكثير من غاز الكلور، كما طوّروا تقنيات جديدة لحماية جنودهم من الهجمات بالغازات السامة.
ثم جاء أخيرًا أحد أكثر أسلحة الدمار الشامل الكيميائية شهرةً، غاز الخردل (C4H8Cl2S) المعروف أيضًا باسم خردل الكبريت.
لم يكن غازًا بالمعنى الحرفي، إنما مادة زيتية يمكنها بسهولة التحايل على معظم أدوات الحماية التي يستخدمها الجنود.
لم يهاجم الزيت المناطق المكشوفة من الجلد، بل تمكّن من اختراق أدوات الحماية التي يستخدمها الجنود وتسبب بإصابة الجنود ببثور شديدة الألم وأعراض أخرى.
في عام 1917، انضمت الولايات المتحدة إلى قوات التحالف ودخلت الجرب. وتمكنوا من إنشاء أول فوج للغاز بمساعدة الجمعية الأمريكية وابتكار سلاح كيميائي جديد يسمى Adamsite، بإمكانه تجاوز قناع الغاز بسهولة ويسبب تهيج العين والغثيان ما يجبر الجنود الألمان على خلع خوذهم والتعرض لغاز الفوسجين والكلور القاتل.
مع استسلام القوات الألمانية في نوفمبر 1918، انتهت الحرب العالمية الأولى والحقبة المروعة من الحرب الكيميائية.
الألماني الوحيد الذي يقف خلف تطوير أسلحة الدمار الشامل في الحرب العالمية الأولى!
معظم الغازات السامة التس استعملها الألمان في حربهم كانت من تطوير العريف فريتز هابر.
لقد كان هابر كيميائيًا مشهورًا بمساهماته واختراعاته التي قتلت الآلاف من الناس، لكنها أنقذت الملايين من الجوع!
بحلول أواخر القرن التاسع عشر، اكتشف العلماء الأوروبيون أن التربة ستصبح عقيمة في السنوات القادمة بسبب الإفراط في زراعة المحاصيل.
كانت العملية الطبيعية لإثراء المغذيات بطيئة، لذلك بدأوا في استخدام الأسمدة لتجديد التربة بأهم ثلاثة عناصر مغذية: البوتاسيوم (K) والفوسفور (P) والنيتروجين (N).
قدمت المعادن مثل صخور الفوسفات والبوتاس إمدادات كافية من الفوسفور والبوتاسيوم، ولكن لم يتم العثور على مصدر وفير للنيتروجين في أي مكان.
لفترة طويلة، استخدمت أوروبا فضلات الطيور كسماد نيتروجين، وكان عليهم استيرادها من بلدان أخرى.
كان المصدر الرئيسي للنيتروجين في العالم هو ملح بيتر أو نترات الصوديوم. 78٪ من هواءنا هو N، لكن لم يعرف أحد كيف يستغله.
كان العلماء خائفين من أنه إذا لم يتم العثور على مصدر مستدام للنيتروجين، فقد يؤدي ذلك إلى مجاعة السكان.
في عام 1904، اهتم فريتز هابر بهذه المشكلة وبدأ في البحث عن طرق لتكرار عملية تثبيت النيتروجين في الطبيعة، لكنه فشل في النهاية. ثم صادف عملية تسييل الهواء لكارل فون ليندي.
قام هابر بتسييل الهواء ثم فصل الأكسجين والنيتروجين عن طريق التقطير. ثم قام بدمج الهيدروجين المضغوط وغاز النيتروجين، مما أدى إلى نشوء الأمونيا.
كان هذا الغاز شديد الذوبان في الماء ويمكن رشه في التربة كمصدر غني لـ N. يمكن أيضًا تحويل الأمونيا إلى صورة صلبة عن طريق تفاعلها مع حمض النيتريك وتشكيل نترات الأمونيوم.
مساهمة الحرب الكيميائية في اختراعات أكثر أمانًا
أدى تصنيع الأمونيا إلى تسريع الثورة الخضراء وهو مسؤول عن وجود ثلثي إنتاج الغذاء اليوم.
إلى جانب اختراع الغازات السامة، كان لهذه الاختراعات جانب آخر إيجابي، وهو تسريع وتيرة اختراع أدوات تقي الناس من الإصابة بالقنابل الكيميائية.
فكان اختراع أول قناع غاز خلال هذه الفترة. كما تم استخدام أقنعة الفانيلا المنقوعة في ثيوكبريتات الصوديوم القلوية لتحويل الكلور الحر إلى مركبات أكثر أمانًا.
مع ازدياد تعقيد الأسلحة الكيميائية، طور العلماء أجهزة تنفس غازية معبأة مع قناع وجه متصل بعلبة. احتوى جهاز التنفس الصناعي على مواد كيميائية تزيل الكلور والفوسفين وتمر عبر هواء أنظف حتى يتنفسه الجنود.
إلى جانب ذلك، الكلور الذي استخدم كسلاح تم استخدامه أيضًا في تنقية المياه، مما منع انتشار العديد من الأمراض التي تنقلها المياه.
يمكن أيضًا استخدام نترات الأمونيوم المستخدمة في إحداث الانفجارات لتغذية المحاصيل الغذائية. يمكن أيضًا استخدام المواد النووية المستخدمة في الرؤوس الحربية الذرية لتزويد ملايين المنازل بالطاقة النظيفة.
لقد أظهر التاريخ أن المواد الكيميائية يمكن أن تؤذي وتنفع. يعود الأمر إلينا في كيفية اختيارنا لاستخدامها!
اقرأ أيضًا:
لماذا سميت الحرب الباردة بهذا الاسم ؟
حل لغز الجروح المتوهجة من الحرب الأهلية الأمريكية بعد 140 عام!