نعود لكم من جديد في سلسلة “علماء الأمة” وهي سلسلة أسبوعية أطلقناها لنتحدث وإياكم عن أعظم من نهل من العلم وردَّ لهذا العالم بعضاً مما فتح الله به عليه، فتاريخنا وحاضرنا يزخر بمن يستحقوا أن نتذكرهم ونتحدث عن عظمة إنجازاتهم.
ولد الدكتور فاروق الباز في الأول من يناير عام 1939 ميلادي، في قرية طوخ الأقلام في محافظة الدقهلية، ترعرع الدكتور في أسرة بسيطة الحال وشجّعه والديه على التدرج في مراحل التعليم المختلفة، حيث كانا يؤمنان دائماً بقدراته ونبوغه، وكان والده أول من حصل على التعليم الأزهري في قريته، وكانت أمه رغم بساطتها عوناً له في إتخاذ قراراته المصيرية، فكانت تمتلك ذكاءً فطرياً على حد وصف ابنها الدكتور فاروق.
كانت أمنيته أن يكون طبيباً جراحاً وخاصة جراحة المخ، ولكن آماله وأحلامه باءت بالفشل بعد أن منعه مجموعه الثانوية العامة من الإلتحاق بكلية الطب، فاضطر بروح أقل حماسة إلى الإلتحاق بكلية العلوم في جامعة عين شمس، واختارها دون كلية طب الأسنان؛ لأنها كانت أقرب إلى مسكنه، ويستغرق المشي إليها ساعة ونصف، وهو ما يساعده على عدم إهدار القروش في الذهاب إليها بالمواصلات العامة، ورغم أنه كان يهوى منذ الصغر الذهاب إلى الرحلات الكشفية وجمع عيّنات من الصخور، إلا أنه لم يسمع عن علم الجيولوجيا إلا حينما إلتحق بكلية العلوم.
حصل الباز على شهادة البكالوريوس (كيمياء – جيولوجيا) عام 1958 ميلادي، وقام بتدريس مادة الجيولوجيا في جامعة أسيوط حتى عام 1960 ميلادي، حينما حصل على منحة لإستكمال دراسته بالولايات المتحدة، نال شهادة الماجستير في الجيولوجيا عام 1961 ميلادي من معهد علم المعادن بـ “ميسوري” الأمريكية، وحصل على عضوية فخرية في إحدى الجمعيات الهامة (SigmaXi) تقديراً على جهوده في رسالة الماجستير، ونال شهادة الدكتوراة في عام 1964 وتخصص في التكنولوجيا الإقتصادية. واستطاع خلال هذه الفترة زيارة المناجم الهامة، وجمع آلاف العيِّنات من بلاد العالم التي زارها.
(صورة لإستلام الدكتور شهادة فخرية من الجامعة الأمريكية في بيروت)
وعاد الباز إلى وطنه مصر بعد أن كانت عيونه متجهة نحوها طيلة فترة دراسته، حالماً بأن يبدأ حياته هناك وينشيء معهداً خاصاً مختصاً في الجيولوجيا، لكنه تفاجأ بما كان ينتظره، حيث قيل له “عليك إستلام عمل كمدرس للكيمياء في المعهد العالي بالسويس”، وكانت صدمة لفاروق بعد أن قضى ثمانية أعوام في دراسة الجيولوجيا يدرِّس الكيمياء في معهد لم يسمع عنه من قبل. لكن الباز رفض ذلك واتجه إلى المسؤولين في الوزارة ليسمعه أحد، لكن جهوده باءت بالفشل بعد ثلاثة أشهر من المحاولات، واضطر للذهاب لاستلام عمله في ذلك المعهد، آملاً بأن يكون السبيل لإيصال صوته لأحدٍ ما. ولكنه بقدر الله سبحانه وتعالى تقابل هناك بصديق جعله الله سبباً لتغيير مسار حياة الباز، إلتقى بأحد زملائه الفيزيائيين، وكان حاصلاً على الهندسة النووية في روسيا، واضطر للتدريس أيضاً مادة الصوت والضوء، ونصحه بعدم إستلام عمله حتى لا يفقد كل شيء، واضطر الباز للإحتيال وسحب أوراقه بعد دقائق من تقديمها إلى إدارة المعهد.
وبعد سنة من المعاناة قرر الباز أن يسافر عام 1966 ميلادي سراً إلى أمريكا، خوفاً من الظروف السياسية الشائكة التي كانت في مصر آنذاك، وهناك بدأ رحلة شاقة للبحث عن عمل، ونظراً لوصوله بعد بدء العام الدراسي، فلم تقبله أي جامعة من الجامعات، فأخذ يبعث طلبات إلتحاق إلى الشركات التي جاوز عددها المئة، وإلى أن بعثت إليه “ناسا” التي كانت تطلب جيولوجيين متخصصين في القمر، وكانت هذه الموافقة دهشة للدكتور فاروق، فهو لا يعلم شيئاً عن جيولوجيا القمر، ودخل “ناسا” وهو لا يعلم أنه سيكون له فيها شأن، وقد وفقه الله إلى أحد المؤتمرات الجيولوجية والتي تحدّث فيها علماء القمر عن فوَّهاته ومنخفضاته وجباله، لم يفهم شيئاً، وهو ما قيل طيلة ثلاثة أيام متواصلة، وحينما سأل أحد الجالسين عن كتاب يجمع هذه التضاريس، أجابه قائلاً: “لا حاجة لنا إلى أي كتاب، فنحن نعرف كل شيء عنه” ..! حرّكته الإجابة إلى البحث والمعرفة، ودخل المكتبة التي ضجَّت بالصور القمرية التي يعلوها التراب، وعكف على دراسة 4322 صورة طيلة ثلاثة أشهر كاملة، وتوصل إلى معلومات متميزة.
وخلال دراسته الذاتية، اكتشف الباز بأن هناك ما يقارب 16 مكاناً يصلح الهبوط فيها فوق القمر، وفي المؤتمر الثاني الذي حضره، كان الدكتور الباز على المنصّة هذه المرة يعرض ما توصَّل إليه وسط تساؤل الحاضرين عن ماهيته، حتى أن العالِم الذي قال له من قبل نحن نعرف كل شيء قام وقال: “اكتشفت الآن أننا كنا لا نعرف شيئاً عن القمر”، ومن هنا دخل الباز تاريخ “ناسا” وأوكلت له مهمتين رئيسيتين في أول رحلة لهبوط الإنسان على سطح القمر، الأولى هي اختيار مواقع الهبوط، والثانية هي تدريب طاقم رواد الفضاء على وصف القمر بطريقة جيولوجية علمية، وجمع العينات المطلوبة وتصويره بالأجهزة الحديثة المصاحبة. وتقديراً لأستاذه، بعث “نيل آرمسترونغ” برسالة إلى الأرض باللغة العربية، واصطحب معه ورقة مكتوب عليها سورة الفاتحة ودعاء من الدكتور فاروق تيمناً منه بالنجاح والتوفيق.
(صورة للأماكن الصالحة للهبوط التي حددها الباز والتي تظهر باللون الأخضر)
بإنطلاق “أبوللو” ونجاح مهمته، سطع نجم الدكتور فاروق الباز، بعد مشاركته فيه من عام 1967 إلى 1972 ميلادي، وبدأ اسمه يأخذ مكاناً في الصحافة العالمية والتلفزيون الأمريكي. وبعد نجاحه في مهمة “أبوللو” شارك مع معهد في واشنطن بإقامة وإدارة مركز أبحاث الكون في المتحف الدولي للفضاء. وفي عام 1973م، عمل كرئيس الملاحظة الكونية والتصوير في مشروع “أبولو” الذي قام بأول مهمة أمريكية سوفيتية في يوليو 1975م. وفي عام 1986م انضم إلى جامعة بوسطن، مركز الإستشعار عن بُعد بإستخدام تكنولوجيا الفضاء في مجالات الجيولوجيا، الجغرافيا، وقد طوّر نظام الإستشعار عن بُعد في اكتشاف بعض الآثار المصرية.
توجّه الباز بعد ذلك إلى دراسة الصحراء، وخلال 25 عاماً قضاها في هذا المجال وحتى الآن، اهتم بتصوير المناطق الجافة وخاصة في صحراء شمال أفريقيا، وجمع معلوماته من خلال زياراته لكل الصحاري الأساسية حول العالم، وكان أكثرها تميزاً زيارته للصحراء الشمالية الغربية في الصين، بعد تطبيع العلاقات مع أمريكا عام 1979م. وبسبب أبحاثه انتخب زميلاً للمعهد الأمريكي لتقدم العلوم.
كان مما يميز الباز استخدامه للتقنيات الحديثة في دراسة الصحراء، واستخدمها أولاً في الصحراء الغربية بمصر، ثم صحراء الكويت، وقطر والإمارات وغيرها. وقد فنّدت أبحاثه المعلومات السابقة أن الصحراء كانت من نتائج فعل الإنسان، وأثبت أنها تطور طبيعي للتغيرات المناخية للأرض.
اختاره الرئيس المصري الراحل “أنور السادات” مستشاراً علمياً لحكومته عام 1978-1981 ميلادي، وكلّفه بمهمة اختيار أماكن صحراوية تصلح لإقامة مشروعات عمرانية جديدة. وقد شرح بطريقة علمية دقيقة كيفية الإستفادة من الموارد الطبيعية لبلده مصر. و دعا إلى أهمية دراسة المياه الجوفية، والتي يهدر منها الكثير في البحار والمحيطات دون استخدام، وطبَّق التكنولوجيا الفضائية لدراستها ودراسة مسارات البحيرات النابضة، وقد عمل على إنشاء مراكز تدرس التصوير الفضائي والاستشعار عن بُعد في كل من قطر، مصر، السعودية، والإمارات.
(على يسار الصورة يظهر الدكتور مع الرئيس السادات، وعلى الجانب الآخر يظهر الدكتور وهو يلقي محاضرة لأهل قريته)
انتخب د. الباز كعضو، أو كمبعوث أو كرئيس لما يقرب من 40 من المعاهد والمجالس واللجان. وقد تم انتخابه مبعوثًا لأكاديمية العالم الثالث للعلوم 1985م، وأصبح من مجلسها الاستشاري في 1997م، وعضوًا في مجلس العلوم والتكنولوجيا الفضائية، ورئيسًا لمؤسسة الحفاظ على الآثار المصرية، وعضوًا في المركز الدولي للفيزياء الأكاديمية في اليونسكو، ومبعوث الأكاديمية الأفريقية للعلوم، وزميل الأكاديمية الإسلامية للعلوم بباكستان، وعضوًا مؤسسًا في الأكاديمية العربية للعلوم في لبنان. ورئيسًا
للجمعية العربية لأبحاث الصحراء.
(صورة لإستلام جائزة من الكلية العربية للعلوم والتكنولوجيا)
كتب د. الباز 12 كتابًا، منها “أبوللو” فوق القمر، الصحراء والأراضي الجافة، حرب الخليج والبيئة، أطلس لصور الأقمار الصناعية للكويت. ويشارك في المجلس الإستشاري لعدة مجلات علمية عالمية، وكتب مقالات عديدة، وعقد لقاءات كثيرة عن قصة حياته وصلت إلى الأربعين. منها “النجوم المصرية في السماء”، “من الأهرام إلى القمر”، “الفتى الفلاح فوق القمر”. وغيرها.
(صورة غلاف لأحد المجلات يظهر فيها الباز مع نجم العلوم التونسي زياد الشعري)
حصل د. الباز على ما يقرب من 31 جائزة، نذكر منها على سبيل المثال: جائزة إنجاز أبوللو، الميدالية المميزة للعلوم، جائزة تدريب فريق العمل من ناسا، جائزة فريق علم القمريات، جائزة فريق العمل في مشروع أبوللو الأمريكي السوفييتي، جائزة ميريت من الدرجة الأولى من الرئيس أنور السادات، جائزة الباب الذهبي من المعهد الدولي في بوسطن، الابن المميز من محافظة الدقهلية، وقد سمِّيت مدرسته الإبتدائية بإسمه. وهو ضمن مجلس أمناء الجمعية الجيولوجية في أمريكا، المركز المصري للدراسات الاقتصادية، ومجلس العلاقات المصرية الأمريكية.
(لحظة إستلام الدكتور الباز جائزة من مدير وكالة ناسا الدكتور جيمس فيتشر)
وقد أنشأت الجمعية الجيولوجية في أمريكا جائزة سنوية بإسمه أطلق عليها “جائزة فاروق الباز لأبحاث الصحراء”. وتبلغ أوراق د. الباز العلمية المنشورة إلى ما يقرب من 540 ورقة علمية، سواء قام بها وحيدًا أو بمشاركة آخرين. ويشرف على العديد من رسائل الدكتوراة.
(لحظة إستلام جائزة الطالب أحمد جابر)
جال د. فاروق العالم شرقًا وغربًا، وحاضر في العديد من المراكز البحثية والجامعات. أحبَّ الرحلات الكشفية، وجمع العيِّنات الصخرية منذ الصغر. وهو يجيد العربية والإنجليزية بطلاقة، كما يتحدث بعضًا من الألمانية والفرنسية والأسبانية. يتَّهمه البعض بأنه شديد الثقة بنفسه، ولكنه دائمًا يقول: “المعرفة تولِّد الثقة، أنا لا أقول شيئًا إلا بعد دراسته جيدًا”.. و د. الباز متزوج من أمريكية، وهو أب لبنات أربعة هن: منيرة، ثريا، كريمة، وفيروز.. وجد لثلاثة من الأحفاد.
يقول د. الباز: “أحمد الله سبحانه وتعالى أنني رأيت أشياء لم يرها عشرون مثلي”، هذا هو د. فاروق الباز ببداياته وقفزاته وأحلامه. وكم من أمثاله الذين نبغوا وأبدعوا ولكن. خارج ديارهم.
(صورة مع طاقم مهمة “أبوللو” التي أشرف عليها الدكتور فاروق)
(إستلام جائزة من مدير برنامج “أبوللو” من الدكتور روكو بيترون)
(أثناء التحضير لمهمة “أبوللو” في مقر ناسا)
(تفقّد عدسة الكاميرا المركبة على المكوك)
(خلال إجتماعات الدكتور مع المسؤولين وتدريب الطواقم)
(فيديو من أحد حلقات برنامج علم .. من أجل حلم، الذي يقدمه الدكتور الباز)
الرجاء خفض الصوت عند وجود الموسيقى
شكرا لك على سلسلة علماء الأمة , التى تعرفنا على حضارتنا و دورنا المؤثر فى حركة العلم , و ان شاء الله ننتج فى عالمنا العربى مئات و الوف من الدكتور فاروق الباز و احمد زويل و غيرهم لرفع راية الامة و يا رب نستفيد منهم فى العالم العربى حتى نصبح من الدول الرائدة المتقدمة المؤثرة على الحركة العلمية العالمية.
شكراً لك عزيزي مهند ،، وإن شاء الله نواصل لعلنا نساهم بإيقاظ الأمة.
تحيه وتقدير واجلال الا كل علماء الامه
اسال من الله ان يعود مجد الامه الاسلاميه لكي يبدع علماء الامه في بلدانهم
الله يعطيك العافية ، وبيض الله وجهك على الجهد الجميل في سرد سيرة هذا الرجل الفذ.