في الإعلام الموجه ليست المشكلة أن نقع في الخطيئة، المشكلة أنه سوف يكون هناك الكثير من الشهود على ذلك، حيث إن أي قانون وضعي يعاقب ( المزور ) عند ضبطه متلبساً في عملية التزوير، كذلك الجمهور يعاقب أي وسيلة إعلامية عند كشفها متلبسة في “تزوير الحقيقة”، بدون ضبط ذلك ( المزور ) يمكنه مواصلة التزوير، وبدون كشف قيام القنوات بعمليات تزوير الحقيقة يمكنها الاستمرار في التزوير والتوجيه بنجاح.
الهدف الأساسي لأي قناة إخبارية تلفزيونية هو التأثير وإعادة توجيه الرأي العام، ولو قيل لنا اليوم إن الاستثمار المالي في تلك القنوات هو مضيعة للجهد والوقت والمال وإن قدرة هذه القنوات في التأثير هي فعلاً في مرحلة احتضار سوف تكتمل خلال سنوات قليلة بشكل شبة كامل في هذه الحالة علينا تقديم العناصر التي تثبت هذه الرؤيا.
حيث يتكون أي “مجتمع مستهدف “بعيون الإعلام الموجه من شريحتين ( مرنة ) وهي الأقل وعياً الأسهل في إعادة التوجيه عاطفياً وهي الأكبر، والثانية ( جامدة ) ذات قناعات مسبقة وهي الأصعب في إعادة التوجيه وتشكل أقلية، لذلك كان منطقياً أن تتوجه القنوات الإخبارية إلى الشريحة “الأسهل والأكبر “لكي تضمن نجاح مهمته . ولكي تنجح علية الإلمام بالمتطلبات “الإعلامية العاطفية “لهذه الشريحة بشكل جيد وأن يظل عنصر ( الحيادية ظاهرياً ) قائماً في جميع الأوقات لكي تضمن عدم انقطاع التواصل وفقدن الثقة.
هناك علاقة ثلاثية ما بين كل من (القنوات الإخبارية، والانترنت، وضعف الوعي ) حيث إن قلة الوعي وانخفاض انتشار الانترنت الجيد هي البيئة المناسبة لنجاح تأثير القنوات الإخبارية التلفزيونية، وارتفاع الوعي وتوفّر خدمات الانترنت الجيدة هي البيئة التي ينتصر فيها تأثير الانترنت..
إذن بمقدار تفاوت انتشار “الوعي “والانترنت في مجتمع ما، يتحدد نجاح تلك القنوات .في دراسة لجامعة نورث وسترن في ثماني دول عربية على عينة من 9693 شخصاً عن ( الأهمية والثقة ) في وسائل الإعلام في تلك المجتمعات، سوف نجد هذه العلاقة العكسية بين انتشار الوعي والانترنت واختلاف معدل قوة الأهمية والثقة في كل من ( التلفزيون والانترنت ) في هذه الدول. حسب الرسم البياني رقم (1) .
نادي المؤثرين وقوة التأثير الإعلامي
أبداً لم تكن هناك صعوبة لدى التلفزيون الإخباري في الاستثمار إعلامياً في “ضعف الوعي “في مجتمع ما، حتى عام 2006م عندما حدثت ثورة ( قوى التأثير ) بسبب تطور شبكات الانترنت والتي كان من نتائجها إعادة توزيع “قوة التأثير” بناء على الضيوف الجدد في “عالم المؤثرين”، لذلك الآن الصحافة الورقية تحتضر، الراديو اختفى إخبارياً، والقنوات التلفزيونية الإخبارية تفقد تلك القوة والسيطرة.
تغيرات معادلة ( المؤثر والمتأثر ) ودخول مصطلح ( القدرة التفاعلية ) بقوة، لتكون بيئة الانترنت “أكثر قدرة وكفاءة “إعلامياً حيث يصبح المتلقي “شريكاً في الإعلام “وليس مجرد “هدف للتوجيه”، لتكمل منظومة الشبكات الاجتماعية هذا الدور لتكون (ذات اتجاهين )بين المؤثر والمتأثر بدون وسيط مقنن مثل التلفزيون، وهو النمط الذي يعجز التلفزيون الإخباري أن يجاريها فيه.
تغيرات “قواعد اللعبة” تمام، ملعب ولاعبين جدد، حيث أصبح “الفرد ” في المجتمع قادراً لأول مرة أن يكون مؤثراً إعلامياً وبشكل فعال .كذلك تغيرات “ساحة الملعب “حيث سجلت دراسة لكل من (Ipsos and Google ) تفوق ونمو عمليات المتابعة الإخبارية عبر بيئة الانترنت على حسب التلفزيون، وذلك منطقي حيث يتوفر في بيئة الانترنت الميزة التي يعجز التلفزيون الإخباري عن تقديمه (حرية الاختيار) .
ولتقريب ذلك تخيّل أنك دخلت إلى مطعم لا يحتوى على قائمة طعام وتفرض عليك ( الوجبات )و( الوقت ) و ( المكان ) الذي تأكل فيه ذلك هو “التلفزيون الإخباري”، أو مطعم آخر فيه آلاف القوائم للطعام وحرية اختيار الوقت والمكان ذلك هو “الانترنت”.
حسب استطلاع للرأي أجراه مركز «بيو» للأبحاث ارتفعت نسبة المتابعة للانتخابات الأمريكية “عبر الانترنت “عام 2008م بنسبة 77% مقارنة مع عام 2004م، ووفقاً لموقع “توتير”، فإن أكثر من 31 مليون تغريدة مرتبطة بالانتخابات عام 2012م أرسلت عشية إعلان نتائج الانتخابات ما جعلها الليلة التي شهدت أكبر عدد من التغريدات بشأن حدث في التاريخ السياسي للولايات المتحدة .على الجانب الآخر انخفضت متابعة الانتخابات عبر التلفزيون عام 2012م 13% مقارنة مع عام 2008م، طبيعة التغير واضحة، لذلك قضية انحسار تأثير القنوات الإخبارية قضية وقت لا أكثر.
نماذج عن عناصر الخلل لدى القنوات الفضائية الإخبارية
عند العمل تحت سقف قانون المؤثر ( القنوات الإخبارية ) والمتأثر ( المجتمع ) ، يجب أن يكون الأول أقوى فكراً أكثر احترافية لكي يكون ” مؤثرا ً”، قادراً على ترسيخ ” الثقة “في ذهن المتلقي، فقدنا هذه ” الثقة “، يعني وبشكل مباشر ” إعادة توجيه عكسية مضادة “.
صناعة الخبر
أن تكون مصنعاً للأخبار خير لك أن تكون مستورداً لها، أن تكون متميزاً خير لك من البحث عن التميز لدى الآخرين، استراتيجية ( القص واللصق ) مريحة وسهلة، ولكن ذات أضرار فادحة على الإعلام الموجه يتحول من خلالها (المؤثر ) إلى ( هدف للتأثير والتوجيه ) ، حيث ارتفعت نسبة (68 % في بعض القنوات ) اعتماد تلك القنوات على الانترنت كمصدر لما تبثه حيث حولها ذلك من قنوات إعلامية المفترض بها ” صناعة الأخبار ” إلى محرك بحث مرئي في ( أكبر مصدر للمعلومات في التاريخ ) وهو الانترنت، لذلك تتردد هذه العبارة كثيراً هذه الأيام على الشاشات “لم يتسنَّ لنا التأكد من صحة الخبر من المصدر”، ولذلك الآن يتوجه الجمهور مباشرة إلى ذلك المصدر الأصلي للأخبار وهو الانترنت.
تعدد الأجندات الداخلية
كل ما تعددت المؤثرات والضغوط ( سياسة، أيدلوجية، إعلانية، شخصية …الخ ) على “المؤثر ” أي القنوات الإخبارية نفسها، انخفضت قدرته على التأثير، وعلى سبيل المثال لا الحصر، بثت مواد وبرامج تحريرية دعائية مدفوعة الأجر بشكل متكرر بدون الإشارة كما تقتضي ( المهنية الإعلامية ) أن هذه المواد إعلانية، رغم أنه في بعض الحالات كانت تلك المواد حتى تتعارض مع النهج الأيدلوجي لتلك القنوات بشكل صارخ.
ليتطور الأمر في بعض المراحل إلى قدرة بعض الشركات الإسرائيلية على الاختراق الإعلاني عبر بعض هذه القنوات، والاحتمال الأكبر هو عدم علم بعض إدارات تلك القنوات بهذه الوقائع حتى ساعة كتابة هذا الفصل، لأن ذلك فعلياً إن حصل يتناقض بشكل صارخ مع نهج تلك القنوات التي تفتخر به ليل نهار.
التوازن الوظيفي لفرق العمل الإعلامية
تفشل القنوات الإخبارية الحكومية المحلية أن تكون مؤثرة برغم تقديم جميع أنواع الدعم لها بسبب سيطرة عنصر أو فكر معين عليها، وفي الإعلام الموجه المحترف المفترض أن هناك ( أجندة ) واحدة يخدمها فريق عمل برؤيا واحدة، لذلك تضع القنوات الأجنبية العريقة معايير توظيفية تضمن “توزان الأداء الإعلامي “ظاهرياً، لأن أي خلل في الهيكل الوظيفي لفرق العمل سوف يعني بشكل مباشر خللاً آخر في ( تعدد الأجندات ) يضعف عملية التوجيه ويطرح الشكوك فيها، وهذا ما حصل فعلاً .
تغذية التطرف الأيدلوجي الوظيفي
لم تحسن بعض تلك القنوات كبح جماح أيدلوجيات بعض فرق العمل لديها عندما رسّخت هي الأخرى في ذهن هذه الفرق أن ذلك التطرف هو “الطريق للنجاح والأمان الوظيفي”، وأغفلت أن هذا “التطرف الأيدلوجي الوظيفي “غير المنظم، سوف يكون سبباً لكسر الثقة مع المشاهدين وضرب مصداقية ومهنية التوازن الإعلامي “المفترضة” . في معركة التوجيه الإعلامي، انقطاع الاتصال بين ( المؤثر أي القنوات، والمتأثر أي الجمهور ) أو انخفاض جودة هذا الاتصال، يعني بشكل مباشر دعماً لعمليات توجيه أخرى منافسة تكون قادرة على القيام بعمليات توجيه بصيغ أكثر احترافية، كما أن “التطرف الأيدلوجي الوظيفي” تم استخدامه كعنصر أساسي لهدم عمليات التوجيه الإعلامي من الخصوم.
التوازن في المحتوي
التكرر غير “المنظم “لعرض آراء “معينة “ساهم في كشف ( عملية التوجيه ) للمشاهدين وأنواع من العلاقة الوظيفية لرموز معينة تستخدم لعكس رؤيا القناة نفسها “بصوت آخر”، كشف هذه العلاقات تسبب في ضرر فادح بالمصداقية والمهنية الإعلامية “المفترضة”، لذلك تم تدمير استراتيجية التوجيه بشكل كبير. كذلك أي قناة تبث لتغطي نطاقاً جغرافياً عريضاً ومجتمعات وثقافات مختلفة، ترتكب خطأ مهنياً لا يُغتفر، عندما يكون هناك عدم توازن في توزيع المحتوى يعطي تركيزاً بشكل ( أكبر ) على منطقة جغرافية معينة أو نوعية معينة من المحتوى أو فئة معينة من المشاهدين حيث إنه بهذا النهج تتحول إلى عامل طرد لشرائح أخرى. كذلك من أكبر سلبيات الاستثمار في ( الجهل ) إعلامياً، أن تلك القنوات تهبط بالخطاب الإعلامي الراقي لكي تنجح في الوصول إلى ( الجهل ) ، وذلك يعتبر هو الآخر عامل طرد لشرائح أخرى مهمة ومؤثرة..
المهنية تحت الضغط
ليس من الذكاء ان الإعلام يلمع نفسه بنفسة ، لذلك انبثقت بعض كيانات الفرنشايز لتقوم بعمليات إصدار تقارير تقييم ( ظاهرية ) للكيانات الإعلامية الإخبارية ومدى انتشارها ومصداقيتها، التشكيك في تلك التقارير التي لا تحمل المعايير المهنية والقانونية للشركات الأم تم منذ اللحظة الأولى بل تم التشكيك في وجود مصالح “متضاربة ” لتلك الكيانات والوسائل الإعلامية وكان ذلك إشارة سلبية أخرى على طريق فقدن الثقة .
المجتمع السعودي كنموذج للتغير الإعلامي
ينخفض تأثير القنوات التلفزيونية الإخبارية من مجتمع إلى آخر استناداً إلى تطور الانترنت و” قوة الوعي”، بناء على ذلك
يبدو أن المتلقي حسم قراره في بعض المجتمعات من حيث اختيار شريكة الإعلامي.
استناداً لنفس المعادلة وكنموذج؛ السعودية من أقل المجتمعات العربية تأثراً بالقنوات الإخبارية التلفزيونية والأكثر تأثراً بالأنترنت، وللدلالة على ذلك تصدرت السعودية دول العالم في نسبة المستخدمين النشطين لموقع التدوين المصغر “توتير”، إلى إجمالي عدد مستخدمي الإنترنت بشكل عام، حيث حصلت على نسبة 41% .وفقاً لدراسة في موقع “بيزنس إنسايدر ” وهي ضعف نسبة دول مثل أمريكا والصين، وفي إحصائيات عام 2012م تتربع السعودية على عرش أكثر دول العالم مشاهدة لشبكة “يوتيوب “بواسطة الهواتف الذكية، بأكثر من 90 مليون مشاهد خلال اليوم الواحد، للتذكير السعودية تأتي في الترتيب 40 على مستوى دول العالم من حيث عدد السكان، هذه مجرد أمثلة لبيان أن المجتمع هناك قد حسم خياره بالنسبة لمصدره الأساسي للأخبار .
لكن لماذا يميل “السعوديون “إلى الانترنت والشبكات الاجتماعية واليوتيوب على حساب القنوات التلفزيونية الإخبارية؟ ما الذي استطاعت بيئة الانترنت تقديمه وعجزت عنه جميع تلك القنوات ؟ .. الرسم البياني رقم (3) والصادر من (Mary Meeker ) عام 2013م يعطي الإجابة حيث يضع السعودية في المركز الأول بفرق هائل جداً عن جميع دول العالم من حيث عمليات المشاركة والتفاعل في الانترنت، إذن السعوديون يبحثون عن “المشاركة والتفاعل “في الانترنت لأنهم لا يجدونها في تلك القنوات التلفزيونية الإخبارية.
خاتمة
أول محاولة لاستخدام التلفزيون في إعادة توجيه الرأي العام كانت في المناظرة بين كينيدي ونيكسون في الانتخابات الأمريكية عام 1960م، الغريب هنا أنه كان للصورة لاحقاً دورها في ترجيح كفة كينيدي على نيكسون لمن شاهد المناظرة عبر التلفزيون، ولكن المفارقة أن نتيجة المناظرة بالنسبة للذين استمعوا إليها عبر الراديو كانت لمصلحة نيكسون، إذن قبل 50 سنة حصلت “ثورة الصوت والصورة” التي أعادت ترتيب الأوراق في العقود التالية.
ونحن الآن في مرحلة متقدمة من تحوّل تاريخي لميزان “قوى التأثير الإعلامي “من القوى التقليدية، سوف يتغير كل شيء بناء على ثورة عالم الاتصالات، وهذا سيؤذي مقدمي الخدمات الإخبارية الحالية، إن قدرة تلك القنوات على التأثير تحتضر مقابل نمو قوة التأثير القادم من الانترنت، سوف يكون أي استثمار مالي في قدرة هذه القنوات على التأثير وإعادة التوجيه مضيعة للوقت والمال خاصة في المجتمعات التي ينمو الوعي والانترنت فيها بشكل كبير.
الكاتب : طارق الماضي
بريد الكتروني : mrt40@hotmail.com
حساب تويتر : @TarekalMadi
من كتاب : التوجيه الاعلامي، فن إدارة الجماهير
مصدر الصورة العلوية : Television Broadcast Gallery