هل تعلم ان هارون الرشيد أول من فكر بحفر قناة السويس‎

هارون الرشيد من خلفاء بني العباس, والتي ملئت سيرته أرحام كتب التراجم؛ حتى لكادت تسقطه من حملها الكبير حول أخبار هذا الرجل الفريد في زمانه وأزمان غيره.
حكم أمصار, وبلاد مترامية الأطراف في الشرق والغرب, من بغداد-عاصمة بني العباس- والتي أبت أن تتسمى بغير اسمه, فكان اسمها عبر التاريخ “عاصمة الرشيد”.
بلغ أتساع مُلكه في الأرض الشيء العظيم, ولعل عبارته المشهورة التي قالها لسحابة كادت تمطر في بغداد ثم دفعتها الرياح بعيداً:”أمطري حيث شئتي , فسيأتني خراجك” توجز عظمة هذا المُلك.
في هذا المقال لست بصدد سرد سيرته من ألفبائيه حتى يائيه؛ لكنها وقفات على بعض المواقف, التي تستحق منا القراءة وإسقاطها بحسرة وتحفيز على واقعنا.
فأمة عظيمة كأمة محمد -عليه الصلاة والسلام- جعلها الله وسطاً بين الأمم وشاهدة عليها كما ذكر جل في علاه((وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس)) -البقرة:143- لا تستحق أن تكون على هامش الأمم كما هو حالها الآن .
فلا التاريخ يقول أنها تستحق التهميش, ولا حتى الجغرافيا, فموقعها يتضمن أهم الممرات المائية والطرق البرية والتي تعد بمثابة الجسور بين أركان العالم.

فدعونا ننظر كيف كان القادة العِظام يفكرون ويفعلون في أمة عريقة كأمة الإسلام.

الوقفة الأولى :هارون الرشيد أول من فكر وهم بحفر قناة السويس.

يحكي المسعودي في (مروج الذهب) “أن هارون الرشيد أراد أن يوصل ما بين بحر الروم –البحر الأبيض المتوسط-وبحر القلزم –البحر الأحمر-… فقال له يحيى البرمكي : ان فعلت فسيختطف الروم الناس من الحرم، وتدخل مراكبهم الحجاز!”
وهذا يقودنا إلى التفكير الإبداعي الذي كان عليه هارون الرشيد, وما كانت لتخامر هذه الفكرة إلا ذهن يتمتع بسعة أفق عالية ورؤية ثاقبة, ربط شرقي العالم بغربيه بقناة تتحرك منها وإليها السفن. فكرة عبقرية تدل على أن هارون الرشيد سابق زمانه؛ فلم تحفر قناة السويس إلا في عام 1859 م أي بعد أكثر من ألف سنة على تبني هارون الرشيد لهذه الفكرة.
لقد ظهر الحرص جلياً في هارون الرشيد على جعل البلاد الإسلامية, تتميز بالمشاريع المبتكرة التي لا يوجد مثيل لها في سائر البلدان, وأن يبذل ما في وسعه لفائدة المسلمين ,وهذا هو المنهج المفترض لمن ولي الأمر .ومن نافلة القول أن المسلمين ما حكموا أرضاً وكانت لهم القوة فيها إلا وعمروها وجعلوها أعجوبة الدنيا. ويتجلى ذلك من: عمارة الأمويين للشام , والعباسيين للعراق, وفي الأندلس, و سمرقند , واسطنبول … ويقودنا ذلك إلى نتيجة مفادها أن الإسلام دين: حضارة, وبناء, ونماء, وازدهار؛ وما التخلف والخراب الكائن في بعض بلاد المسلمين إلا بسبب أن الإسلام لم يقم فيها بشكله الصحيح إما: بالتضييق على أهله, أو بالفهم الخاطئ له. فحاشا وكلا أن يكون الإسلام هو سبب: الرجعية, والتقهقر, والانغلاق كما يقوله الأعداء ويروج له الغوغاء ويصدقه الدهماء.
نعود لفكرة هارون الرشيد والتي لم يوقفها عن التنفيذ إلا خوفه من عبور الروم إلى أرض الحجار, فتكون بيضة الإسلام مكشوفة على الأعداء!!
وهذه نقطة أخرى تستحق الوقوف عندها والتأمل, فهارون الرشيد رغم قوة سلطانه وترسانته العسكرية المهيبة, أحجم عن مشروع مهم لأجل أمر أهم, وهو أمن المسلمين.
والمفترض أن تكون هذه هي الأولوية لمن تولى الأمر, وأن لا يُركن إلى الأعداء ولا يسمح لهم بسهولة التنقل والمرور بجانب ديار المسلمين.
والحقيقة أن الغرب استفاد كثيرا من هذه القناة أكثر من المسلمين, فالغرب كان يبحر إلى أسافل قارة إفريقيا عن طريق “الرجاء الصالح” حتى يصل لشرق العالم, وهذا يفسر الحماسة الفرنسية والتي تمثلت في نائب القنصل الفرنسي في مصر “دى لسبس” والذي خطط وأشرف على حفر القناة, والمسلمون أصلا لم يكونوا في حاجة ملحه لها, فالعالم الإسلامي مطل على شواطئي العالم من البحر المتوسط, والمحيط الأطلسي, والهادي.
ولعل حسنة جمال عبد الناصر الوحيدة هي تأميم قناة السويس ونزع ملكيتها من فرنسا, فلا يصح أن يكون هذا النقب والمفضي للعمق الإسلامي تحت إدارة غير المسلمين.

الوقفة الثانية: موقفه الحازم ضد من شكك بالدين من المسلمين.
ماذكره السيوطي في كتابه(تاريخ الخلفاء) عن أبو معاوية حين قال: حدثت هارون الرشيد يومًا حديث: “احتج آدم وموسى” وعنده رجل من وجوه قريش، فقال القرشي: فأين لقيه؟ فغضب الرشيد، وقال: النطعَ والسيفَ، زنديق يطعن في حديث النبي صلى الله عليه وسلم.قال أبو معاوية: فما زلت أسكنه، وأقول: يا أمير المؤمنين كانت منه نادرة، حتى سكن.
لم يسمح هارون الرشيد لهذا الرجل أن يشكك في سنة النبي عليه الصلاة والسلام, وكاد يفتك به, رغم أنه من وجهاء قريش, فعلينا أن نؤمن بالكتاب والسنة كما هما. ولا ندخل في مهاترات الفلاسفة وأصحاب الكلام.
وياليت شعري لو يرى هارون الرشيد الحال الآن!! ماذا يقول؟ وماذا يفعل؟ وهو يرى أن الطعن في الدين والتشكيك به تلميحا أو تصريحا . يدخل في دائرة حرية الفكر! وصاحبه يحمل صفة المثقفين وهو من أهل التنوير,الذي يجد لزندقته من مريديه حين يتقيأ ألف تبرير.
المسألة جد خطيرة, والمفترض أن لا يسمح لهؤلاء بإظهار “هرطقاتهم” , لأن الأمة المحمدية مكونة من خليط مختلف من الأجناس والأعراق والألسن. يجمعهم نسيج الإسلام, والطعن في ثوابت الإسلام, يخرب على هذا النسيج تشابكه وانتظامه, فتظهر البلبلة والتمزق. هذا فقط على المستوى الاجتماعي, واسحب الضرر بالقياس على بقية المستويات الفكرية, الأخلاقية…الخ

الوقفة الثالثة: تكريم العلماء وإجلالهم
ذكر السيوطي أيضا في كتابه(تاريخ الخلفاء) عن أحد العلماء والذين تناولوا طعاماً عند هارون الرشيد قال: أكلت مع الرشيد يومًا، ثم صبّ على يدي رجل لا أعرفه، ثم قال الرشيد: تدري من يصب عليك؟ قلت: لا. قال: أنا إجلالًا للعلم”
يالله ما أجمل صنيع هارون الرشيد!! وما أرشده حين أجل العلم وأهله. فبالعلم تضاء دجى الظلمات, وبنقيضه يتسيد الظلام.
فالعلماء مثل النجوم, قدرهم عالي, فهم زينة الأمة مثلما النجوم زينة السماء, وبهم يهتدي السائرون في الظلمات, مثلما يهتدي المسافرون بالنجوم, وبهم يحترق أهل البدع والضلالات, كما تحترق الشياطين بالنجوم حين تسترق السمع.
والواجب تكريمهم وتشجيعهم وإعلاء شأنهم , لأن في رفعتهم رفعة للأمة ومنفعة عظيمة.
لكن الحاصل الآن عكس ذلك, فالذي تلقى عليه الأضواء وينال من الشهرة منالها, ومن الأموال أثقالها , ليسوا العلماء , بل “الملهيين” من: فنانين ولاعبين, وليس في أعمالهم أي عمل مفيد تسمو به الأمة.
ينفخ وينفخ وينفخ فيهم حتى يمتلئوا ويراهم الجميع, وتمنح الجوائز التقديرية والفخرية لهم على مستوى الدولة !!
هذه الهالة الكاذبة تغري الناشئة؛ ليكونوا مثلهم! كيف لا؟ والشهرة والمال والتكريم من نصيبهم إن سلكوا هذا الطريق!!
وكان الأحق أن تنزع هذه الهالة وتكون على العلماء بحقها. ولفظ العلماء هنا لا يقتصر على علماء الشريعة بل حتى علماء علوم الدنيا.
ألم نسمع عن مصطلح”الأدمغة المهاجرة”؟ أنه مصطلح يشير إلى هجرة العلماء الأفذاذ من بلادهم إلى بلاد أخرى, تعطيهم ما منعتهم بلادهم من المكانة اللائقة التي تناسبهم وتشبع حاجتهم من التقدير.
هذه وقفات من سيرة هارون الرشيد حاولت جهدي أن أقرائها وأشاطر معانيها معكم؛ لنعقد العزم أن نعيش في حضارة ومجد يليق بالانتماء لأمة محمد –عليه الصلاة والسلام- فإن لم نستطع ذلك, فلنحرص أن نهيأ الأجواء للأجيال القادمة ليكونوا كذلك.

أ/ عبد الرحمن المطيري- ماجستير تربية- الجامعة الإسلامية

تويتر:@abo3mad

 

Exit mobile version