رسائل المجموعة

من وحي جدة : القهر الخالد

صباح مثالي جميل لنوره ليوم أربعاء رائع .. فهي تنتظره منذ بداية الأسبوع .. و اكتمل جمالا بأجواء رائعة من الغيوم الجميلة التي استبشرت بها .. نظرت من الشباك إلى الأجواء الرائعة و ذهبت توقظ زوجها ( أحمد ) حتى يذهب معها إلى مقابلتها الشخصية في الوظيفة التي انتظرتها 7 سنوات في إحدى الشركات في مجال تخصصها .. فبعد طول انتظار وجد لها زوجها رجلا في إدارة الشركة من أقاربهم .. و وعدهم بكل خير ..

بكل سعادة و هناء .. استيقظ الزوج في هذا الجو الرائع و هذه النفسية الجميلة لزوجته … و أمن خادمة من أحد الأصدقاء لتجلس مع طفليه الصغيرين رامي ذو الست سنوات ، و رائد ذو السنتين ، فرحت نوره بالخادمة بعد أن رحبت بها بسعادة .. لأن قدومها يعني بقائها بعد الوظيفة لخدمة البيت … و أوصتها على الطفلين .. و أن تتركهم نائمين .. و إن استيقظوا .. تعطيهم من الأكل الموجود في الثلاجة … و تنتظر عودتها قبل صلاة الظهر ..

خرج أحمد لسيارته و هي سيارة ( ونيت ) من الموديلات الحديثة ، و هي سيارة مصروفة له من قبل شركة المقاولات التي يعمل بها ، شغل سيارته و انتظر زوجته حتى تجهز و خرجوا إلى مصنع الشركة الموجود في المنطقة الصناعية في مدينة جدة ، كان الجو جميلا حتى أنه أثر في روعة حديثهم و أمنيات الزوجة بالراتب ، و ماذا ستفعل به و هو يجاريها في تقسيم الراتب ، و يشترط عليها أن تشاركه في إيجار الشقة ، أو تدفع راتب للخادمة ..

بعد ساعة تقريبا من الحديث عن مستقبلها الوظيفي و مستقبلهم المادي وصلوا إلى مقر الشركة … سألوا عن مكان المقابلة الشخصية .. و كانت هذه المقابلة بكل عناصرها نسائية .. فدخلت نوره إلى ذلك القسم وحدها تاركة أحمد في مكان الانتظار في استقبال الشركة ..

اخذ أحمد المبادرة للحديث مع موظفي الاستقبال عن الشركة و رواتبها .. و الحديث عن استقلالية القسم الذي ستقدم له زوجته .. و هي أسئلة يعرف إجابتها مسبقا .. و لكنه أراد أن يسأل حتى يستهلك وقت الانتظار الممل ..

بعد الأسئلة و المجاملات بين موظفي الاستقبال و أحمد .. طلب الصحيفة من الموظف .. و أعطاه الموظف طالبا منه إعادتها بعد الانتهاء منها .. و عاد إلى مكانه في كرسي الانتظار .. يقلب صفحات الصحيفة ..

بعد نصف ساعة .. خرجت نوره .. و بسرعة ترك الصحيفة في مكانه و سألها عن المقابلة و لماذا هذا التأخير .. بررت بأنها تفاجأت باختبار تحريري بعد المقابلة .. خرجوا من الشركة في الساعة العاشرة صباحا .. قررت نوره بهذه المناسبة أن تعزمه على حسابها في أحدى المولات الموجودة في جنوب جدة .. و كان المطر يهطل بشكل غزير و جميل …

تناقروا في مسألة العودة إلى البيت أو الفطور في مول .. و إرضاء لزوجته وافق أحمد على فكرتها .. و قرروا الذهاب إلى أقرب مول .. و هو الجامعة مول في حي الجامعة في جنوب جدة .. مع اقتراب الساعة إلى العاشرة و النصف صباحا ..بدأت الأمطار تزداد غزارة و أصبح الطريق لا يُرى …

حاول أحمد أن يقنع نوره بالعدول عن فكرة الفطور .. و العودة إلى البيت خشية الأجواء الممطرة .. إلا أنها تأففت و اعتبرت أن الوضع طبيعي و أن الأمطار ستهدأ بعد لحظات .. و أن أحمد عادة يتعامل معها بهذه الطريقة … كل مرة يعشمها بالشيء .. و بالأخير يطلع كلامه فقط كلام …

و أحمد لم يرد أن يصل الموضوع إلى كسر الخواطر خصوصا في يوم تغير حياتها بالوظيفة الجديدة … أكمل طريقه إلى الجامعة مول .. و قال لها أنا أروح بس على مسؤوليتك لو سحبنا السيل .. و بمكابرة قالت نوره .. السيل ما راح يسيب الناس كلهم و يسحب سيارتك …

وصلوا إلى كبري الجامعة من الخط السريع و نزلوا منه إلى شارع عبدالله السليمان .. و كانت المفاجأة بتعطل السيارات في الشارع .. و وجود سيل يتحرك من الشرق إلى الغرب في الشارع بسرعة و قوة .. أكملت السيارة طريقها بين السيارات المتعطلة .. و بدأ الخوف الصامت يعلو وجوههم .. و كل ما دخل أكثر في الشارع زاد ارتفاع المياه .. أحمد شعر بخطورة الموقف بشكل فكر فيه كيف يرجع إلى الخط السريع و لكن السيارات المتعطلة و الفوضى في الشارع .. لم تترك له الفرصة بالرجوع ..

أكمل بهدوء و ترقب … مع صمت مكابر من نوره .. حتى وصل ارتفاع المياه إلى زجاج السيارة بدأت نوره في البسملة و الحوقلة .. و انقلب حذرها إلى ذعر أربك أحمد و هي تقول بصراخ وخوف ( هنا في هذا المكان كنت أشوف الناس يسحبهم السيل العام ,, ياربي ما أبغى أموت ) ..

أحمد قال لها بمحاولة لاصطناع المزح .. ( لا السيل ما راح يسيب الناس كلهم و يسحب سيارتي ) قالها مع ضحكات مصطنعة لتخفيف توتره و توترها .. ولكن هذا المزح لم يجد له صدى حتى أن عيني أحمد تسمرت في مراقبة الطريق بذهول … بدأت نوره بالدعاء و التكبير و التهليل و هي ترى السيل يتحرك بسرعته الكبيرة في الطريق المقابل ..

أحمد شعر بسيارته كأنها خارت قواها .. فقرر إيقافها في أي مكان مرتفع … كانوا قريبين من دوار أمام الجامعة مول .. قرر وضع سيارته أعلاه .. بترقب منه و منها لكل شيء تحركوا و أبصارهم شاخصة باتجاه الدوار متمنين لو أنه يقترب منهم الدوار أكثر حتى يشعروا بالأمان .. اقتربوا من الدوار .. حتى وصلوا إليه و حاول أحمد مرارا و تكرار أن يرفع السيارة إلى أعلى الدوار .. لم يستطع ذلك لارتفاع الدوار ..

قرر حينها إيقاف سيارته بجانب الدوار بشكل عرضي و جعل باب خروج زوجته باتجاه الدوار .. و قال لنوره و هي صامتة و مرعوبة .. اخرجي من السيارة .. خرجت مباشرة دون أن تقول شيء و دون أن تعرف إلى أين .. و خرج من نفس الباب .. صعدوا إلى أعلى الدوار .. حتى يتجنبوا السيل و ارتفاع المياه …

انتظروا هدوء الأمطار .. و لكنها كانت بازدياد … كل هذا حدث فقط في 20 دقيقة من دخولهم شارع عبدالله السليمان إلى تجمدهم تحت المطر .. 20 دقيقة كأنها لحظات حرجة بين السلامة و الخطر … تجمدت فيها كل شيء حياتهم و أمالهم و ذكرياتهم و أبصارهم .. بقاؤهم تحت الأمطار لم يكن بفكرة صحيحة .. فقد ابتلوا بالأمطار حتى أصبح الوضع لا يطاق فقد أغرقهم المطر بللا ….

و قال أحمد ( هيا يا نوره .. سنقطع السيل مشي حتى ندخل المول وقوفنا هنا خطر ) و المول كان في الجهة المقابلة و المشي إليه يتطلب قطع الشارع العريض جدا … ترددت نوره حتى التحرك من مكانها كان يحتاج لمعجزة .. فنظرتها إلى الشارع و السيل خيل لها أنها ستنجرف حتما معه …

شعر أحمد بخوفها الواضح جدا في ملامحها .. و عادوا إلى السيارة .. و كانت المياه قد دخلت داخل السيارة .. و مشوا مسافة قريبة بالحسابات .. و لكنها بعيدة بالآمال .. تحركوا .. و هم في قلق و خوف .. من السيل و من السيارات لأن ذهابه إلى المول بأقصر طريق تعني أن يمشي بسرعة باتجاه عرضي من الدوار حتى يقطع الشارع كله و يصل إليه ..

و بتهور تطلبه الموقف زاد أحمد من سرعته حتى لا يسحبه السيل السريع .. و سيارته تترنح مع السيل و نوره تبكي و تدعي و تطلب الله أن يسلمها من أجل أطفالها … و نظرها إلى السيل الذي يرتطم بالسيارة من اتجاه الزجاج القريب من زوجها .. . و أحمد يطلب منها السكوت بحزم ..

وصلوا إلى مواقف المول الخارجية بسرعة خرجوا و حماسة .. دخلوا المول و هم في حالة من التعب و الإرهاق العصبي و النفسي .. و حالة من الارتعاش من البلل بسبب السيل و خروجهم إلى المطر … أصابت نوره .. قال لها أحمد خلاص إحنا هنا الحمد لله .. قرروا البقاء هناك … بانتظار أن تخف حالة الأمطار .. و أن تتصرف الأمانة مع هذا السيل …

ذهبوا إلى منطقة المطاعم و طلب أحمد له و لزوجته عصير و لنفسه قهوة .. و أخذ معه بعض الأكل الخفيف … جلسوا بصمت .. و بطريقة آلية يأكلون و يشربون .. و الخوف لا يزال في نفوسهم فالموقف حتى و إن انتهت لحظاته … لم يغادر منظر السيل و ارتطامه في زجاج السيارة مخيلة نوره ..

و هم في حالتهم هذه .. يشاهدون 3 فتيات يصرخن .. و يتكلمن بصوت مرتفع كله الألم و البكاء و الشكوى … اشتغلت جينات الفزعة في دم نوره و أحمد .. أو كانت الفزعة لدى أحمد و الفضول لدى نوره .. فقال أحمد لنوره خلينا نشوفهم يمكن يحتاجونا نفزع … قومي ..

قامت نوره تسابق أحمد حتى تصل قبله إليهن .. وصلت لهن و بدأت حديثها بحمد الله على سلامتهن .. فردت أعلهن صوتا و أكثرهن ألما على ما يبدو .. ( أي سلامة يا شيخة .. حسبنا الله و نعم الوكيل .. اللي بالجامعة الله يكافيهم .. ماخلونا ندخل الجامعة مع شدة المطرة و نحنا عندنا اختبار الساعة وحدة و نص .. و خلونا بالشارع مع دي المطرة .. )

قالت نوره .. إنتوا ليه رايحين الجامعة و الدنيا مطر كذا .. ردت نفس البنت بعد ما أخذت تنهيده ( نحنا جينا مع السواق الصباح بدري و نزلنا الجامعة نشوف دكتورة بنقدم لها تقرير مشروع التخرج واعدتنا الصباح الساعة 10 .. اعطيناها التقرير .. و شفنا الوقت بدري .. قلنا نطلع نفطر في الجامعة مول و نرجع على صلاة الظهر عشان الاختبار ..

بس لما مطرت و زاد المطر خفنا إننا ما نقدر نوصل للجامعة .. فقلنا نمشي .. و مشينا وسط المويه .. و كلنا صار مويه حتى جوالاتنا خربت من المويه .. و الحيوانات بالجامعة بعد دا كلو .. يقولوا لنا أرجعوا ممنوع … عشان يخلوا مسؤوليتهم .. و إحنا بالشارع .. و بنتصل على أهلنا جوالاتنا خربانة .. نترجاهم نص ساعة يدخولنا .. و هم طناش .. غرقنا بالمطره .. شوفي كيف ايادينا ترجف من الخوف و البرد .. بالأخير رحنا ندور أحد يوقف لنا يودينا أي مكان بس عن المطره .. محد وقف .. ما صار قدامنا إلا إننا نقطع الشارع و نمشي و نغرق و نسبح عشان نوصل هنا .. )

نوره تتابع بذهول و حزن .. .. و أحمد يمشي على مسافة عنهن و ينتظر الفرصة حتى يعرض فزعته .. و تكمل الفتاة ( و إنتي يا طيبة .. تقولي حمد لله على السلامة … و الله شكلو مافي أي سلامة .. حسبنا الله عليهم … جوالاتنا خربانه .. و أهلنا ما يدروا إحنا فين .. و لا ندري هما فين .. بس نبغى جوال نطمن أهلنا علينا .. ) هنا تداخل أحمد و أعطى جواله إلى زوجته حتى تعطيها و تتصل على أهلها .. أخذته نوره .. و أعطتها الجوال .. و اتصلت على أحد إخوانها .. و هي تبكي و تشتكي و تخبره عن مكانها ..

و كانت الصدمة أن هذا الأخ أيضا محجوز هو و سيارته في أحد الشوارع .. و لكنه سيتصرف .. و طلب منها أن تبقى و صديقاتها في المكان نفسه .. فهو أكثر أمانا حتى لو بقوا إلى الليل .. انتهت المكالمة و طلبت نوره منهن أن يتفضلوا معها إلى طاولتها و تعزمهن على قهوة أو عصير .. و قاموا من الطاولة التي كانوا يجلسن عليها .. حتى طاولة نوره ..

و قام أحمد بطلب قهوة لهن جميعا حتى زوجته .. و قدمها لهن .. و ذهب إلى طاولة جانبية .. و بدأ حديثهن لا يسمع .. و كأنهن يصبرن بعضهن .. قطع هذا الحديث أذان الظهر .. قام أحمد يسأل عن المصليات في المكان .. و اتصل على جوال نوره يخبرها مكان مصلى النساء .. و أن تصلي بسرعة لأنهم سيعودوا إلى البيت من أجل أطفالهم ..

ذُهلت نوره من هذا .. و لكنها قالت طيب طيب .. كأنها تُجاريه فقط إلى ما بعد الصلاة .. استأذنت نوره .. لتذهب إلى المصلى و تصلي .. و دعت من قلبها أن ينجيها الله من هذا و أن يعيدها الله إلى بيتها و أطفالها …

بعد الصلاة عادت و اتصلت على أحمد الذي قال أنه ينتظرها عند السيارة .. ترجته أن يبقوا في المول .. و لكنه قال سأتركك هنا و أعود وحدي إن لم تنزلي الآن .. فالأطفال في البيت أخشى عليهم من هذا المطر خصوصا أنهم يعانون من الربو .. فانزلي الآن .. حاولت أن تقنعه بالاتصال على الخادمة .. أو أن توصي أحد الجيران ..

قال كيف أحد الجيران و نحن خرجنا و أغلقنا الأبواب بالمفاتيح … و لا يوجد أحد لديه مفتاح للبيت .. انزلي الآن .. و بسرعة .. بعد دقائق قليلة .. وصلت إليه .. ركبوا السيارة … و ترجاها أن تقوي قلبها و كانت أولى رسائل الخوف منه … أربكها هذا القول و هذا الرجاء ..

و كانت تستفسر بخوف ( أيش بتسوي ؟؟ ) و رد بهدوء .. سأتوكل على الله .. قالها و هو يحرك السيارة باتجاه شارع عبدالله السلميان مرة أخرى .. متحديا خوفه و السيل .. من أجل أطفاله .. تحرك و حركه السيل و اتجه باتجاه الخط السريع ليعود لبيته في شرق الخط السريع بحي الأجواد ..

و كانت نوره تنظر إلى الساعة و هي تشير إلى الساعة الواحدة و الربع ظهرا .. و زوجها يتحدى السيل و هي ترتعش خوفا من مصيرهم .. و منظر الماء المتلاطم على زجاج السيارة .. قرر حينها أحمد بسرعة أن تعود إلى المقعد الخلفي و تجلس خلفه مباشرة .. تلعثمت تريد الرفض و ليس هناك سببا لرفضها إلا شعورها بالشلل في كل جسدها ..

و صرخ فيها أحمد مجددا أرجعي للمقعد الخلفي .. و عادت بسرعة بعد الصرخة المفزعة .. و بشق الأنفس و بعد جهد و تحد عظيم وصلوا إلى كبري الجامعة .. وجدوا عنده مجموعة من قوات الأمن تغلقه .. و لكن أحمد استمر في تحديه و وصل إليهم .. و توقف .. و طلبوا منه العودة إلى طريقه .. رفض و مبررا موقفه ..

و بقوة و تهكم أجابه أحد عناصر الأمن .. إن سمحنا لكن بالنزول إلى الخط السريع .. فأنت ستموت قبل عيالك .. فارجع إلى الطرق الداخلية على الأقل لا يوجد بها سيل .. رضخ أحمد لهذا الوضع .. و بنفس التحدي عاد إلى طريق عبدالله السليمان .. يريد الذهاب إلى شمال جدة أولا و منه إلى كبري بريمان حتى يدخل إلى حي السامر … و منه إلى الأجواد .. مغامرة جديدة … أو تحدٍ مع السيل آخر …

و بأمل أن المشكلة كلها هذا السيل القريب من الخط السريع فقط .. عاد إلى شارع الخوف عبدالله السليمان .. أعلن عزمه لنوره قائلا ( ما أوقف إلا في البيت إن شاء الله إلا لو وقفت السيارة غصب ) .. صمتت نوره و هزت رأسها معلنة موافقتها الصورية ..

و اقتربوا من الجامعة مول .. و نوره تتأمله كأنها ترى منجاتها فيه .. و كلما اقتربوا أكثر .. أو اهتزت السيارة بقوة من السيل .. نادت بصرخة الخوف (أحمد …. أحمد… أحمد نزلني خلاص في المول تكفى ) و ببكاء .. و إن مشت السيارة بأمل منها أنهم سينجوا .. تصمت قليلا .. حتى جاوروا المول …

بدأت مع صرختها تهز في كتفي أحمد من الخلف .. و تقول ( خلاص هذا المول خلينا نلف ما نبغى نموت ) .. أحمد من غيظه التفت أليها و بجلافة قال لها ( و الله لو ما تسكتي لا أنزلك وسط السيل ) .. من غضبة أحمد صُدمت نوره .. و أنزلت رأسها على المقعد و بدأت بعدها تبكي .. و تئن .. وصلوا إلى شارع الأمير ماجد الممتد من جنوب جدة إلى شمالها ..

رغم الماء و رغم كل ما في الطريق مشوّا فيه .. فلا مفر من القدر .. و لا أمل إلا الاعتماد على النفس و التوكل على الله .. ازداد نحيب نوره .. و هي لا تعرف ماذا سيكون مصيرها في هذا اليوم ..

شعر أحمد بحزن لما في نوره من ألم .. و فكر أن يخرجها من الدوامة التي دخلت فيها .. و سألها هل تعرف رقم الخادمة .. حتى تتصل بها و تعرف حال الأطفال .. ردت نوره بتناحة ( أيوة .. عندي.. ليه ؟ ) طلب منها أحمد الاتصال على الخادمة و الاطمئنان على الأطفال .. قالت بغضب ( بدري .. كان من وقت إحنا بالمول نتصل و خلاص ) ..

قال أحمد باستغراب ( نوره .. متأكدة هذول عيالك ؟؟ ) ردت بحزن و استرحام ( عيالي .. أيوة عيالي .. بس هم في البيت بأمان حتى تأخرنا عنهم .. أما إحنا على كف القدر .. ما ندري بعد 10 دقايق فين بنكون ) ..

سكت أحمد و برر بعد دقائق من السكوت و ترقب الطريق و ما فيه .. ( الخادمة ما أضمن تصرفها لو إنكتم واحد من العيال .. و خصوصا رائد بتتفرج عليه و لا بتسوي مصيبة فيه ) قالت نوره بتوتر و هم مؤلم ( لا تفاول على عيالي الله يخليك .. حسبنا الله و نعم الوكيل )

فصرخ فيها أحمد ( بتتصلي عليها و لا تجيبي رقمها اتصل ؟؟ ) .. لم ترد عليه .. و اخذت تبحث عن الرقم بين الأرقام و اتصلت تسأل عن الأطفال .. و عرفت أنهم صحوا و جلسوا يشاهدون المطر من الشباك .. مع الخادمة .. و كلهم بخير ..

وصل حينها أحمد إلى دوار الملك عبد العزيز .. و أكمل طريقه باتجاه بني مالك .. و مشى في طريق كله تحويلات و إصلاحات حتى أنه خشي أن يجد نفسه في إحدى الحفر .. لأنه أصبح يمشي مع الناس فقط .. و دليله في مشيه السيارة التي أمامه ..

أجبره هذا الحال لمحاولة دخول شارع بني مالك .. و اتجه فيه من الشرق إلى الغرب .. و كان الشارع مليء بالمياه .. و السيارات متكومة على بعضها البعض في اليمين و اليسار .. و نوره تترجاه بأن يتوقف على جانب الطريق حتى يتوقف المطر … و هو بكل عناد يكمل طريقه ..

و بدون حتى تعابير لا باللفظ و لا بالوجه كأن إحساسه تبلد مع ما وجد في هذا الوضع .. و هو يرى الدنيا حوله تغرق و كل السيارات توقفت لم يبقى إلا ونيته يصارع البقاء في الطريق .. وجد على يمين الطريق سيدة تمشي و تسقط في الماء تقف و تمشي ليسقطها الماء .. و تقف و تمشي ..

قال بعفوية ( نوره شوفي المجنونة بتنتحر ) .. تسمرت عيني نوره باتجاهها .. قالت له الحقها قبل لا تموت .. و اتجه أليها .. وقف بالقرب منها و قال لها أركبي ….. و هي دون حتى أن تتكلم أو تمانع ركبت معهم السيارة .. ركبت بالخلف قرب نوره ..

سألها أحمد ( من فين جاية و لفين رايحة مع السيل هذا ) .. جاوبت ببساطة ( و الله جايه من مستشفى الجامعة .. و رايحة لبيتي هنا في بني مالك ) … أحمد باستغراب ( أما جايه مشي من المستشفى لهنا ) .. ردت ( مشيت بين الأحياء كلها و شفت الدمار و الناس و حالهم و شفت الموت بعيني ) ..

تداخلت نوره مستغربة هدوء المرأة في حديثها ( طيب ليه جايه مشي و بهذا الجو ) .. ردت بنفس الهدوء و البساطة و لكن هذه المرة فيها ألم ( و الله يا بنت الحلال ولدي اتصل عليا إن البيت انقفل عليهم طاح عمود ع الباب و قفله .. و المويه مغرقه البيت بأروح أخرجهم قبل لا يغرقوا ) تقول كلماتها الأخيرة بمرارة و ارتعاش في الكلمات …

سكتوا جميعا .. دقائق و أحمد يتجه إلى بني مالك … و هو السيارة الوحيدة التي تقاوم في الطريق بعد كل هذا .. اعترضهم في الطريق سيل قوي جدا و سريع جدا و شاهدوا بأنفسهم السيارات و السيل يجرفها و كل شيء أمامه يجرف .. و كل من في السيارة يذكر الله .. و يسبحه ..

و هنا قرر أحمد أن يذهب أخيرا إلى جانب الطريق و يتوقف هناك حتى يتوقف السيل أو تقل المياه … بعد أن صعد على الرصيف الجانبي للشارع .. همت السيدة بالخروج من السيارة .. سألتها نوره إلى أين ستذهب .. قالت ستكمل طريقها مشيا على الأقدام لإنقاذ أبنائها ..

ترجوّها و حلفوها بكل شيء بان تبقى فذهبها للسيل يعني موتها .. و هي ترد بأن ( الله يلطف بنا ) .. و سمعوا حينها صوت الطائرات العمودية يكسر حوارهم الذي بدا سرمدي … و حينها فزت نوره من مكانها و تلوح بقطعة من قماش .. علهم يأتون و ينجدوا السيدة و أبناءها .. أو هذا كان كلامها للسيدة حينها ..

و صرخت و صرخ معها أحمد بأعلى أصواتهم … و أشروا كلهم لهم علهم يقتربوا حتى .. و لكن الطائرة العمودية كانت تكتفي بالدوران حول الحي كاملا .. فقد كانت تحوم .. و أحمد يصبرهم بتحليله للموقف … ( لا الهيلكوبتر هذي بس تشوف الحالات و ترسل قوارب و سيارات الدفاع المدني تنقذ الناس ) ..

صدقوا كلهم هذا الكلام .. و بقوا ينتظروا و المياه ترتفع بشكل مرعب حتى أن فكرة السيدة بالنزول أصبحت مستحيلة الآن لأن الباب لن يفتح بسبب وصول المياه لأكثر من نصف السيارة .. مرت سيارة للدفاع المدني من أمامهم .. أيضا أشاروا لها .. و لكنها كانت تكمل طريقها دون اكتراث .. و أيضا أحمد يقول ليصبرهم السيارات الثانية وراها إن شاء الله ..

بعد مرور ساعة على وضعهم هذا كانت الساعة تشير إلى الثالثة مساء .. لا يُسمع إلا كلمة من نوره ( دايخه و مصدعة ياااربي رحمتك ) .. و السيدة صامته تنظر إلى جوالها .. و أحمد يراقب السيل .. بانتظار أن يتوقف أو أن يقل منسوب المياه ..

بعد دقائق بدأت السيارة تهتز من زيادة سرعة السيل و قوة تردداته و هو ما قلب صمت أحمد إلى خوف و ذعر شديد … و أصبح يحدث نفسه بلغة غيرة مفهومة كان فيها يقلب أفكاره بصوت مرتفع قليلا .. و كأنه ينتظر مشورة من أحد .. و هو يضرب بيده بمقود السيارة ..

و نوره صمتت بشكل غريب .. و أحمد يقول ( شايفة هذا كله من وظيفتك و شوفي هذي بس أولها .. كيف بيكون تاليها ) .. انتظر رد نوره لتبرر أو لتشتكي حظها العاثر .. و لكنها لم ترد بأي شيء .. التفت إليها … و جدها فاقدة للوعي .. مد يده يوقظها .. ( نوره … نوره … هيه .. نوره قومي ) .. لم ترد ..

طلبت منه السيدة أن يبتعد قليلا .. و قالت له أنها تعمل ممرضة في مستشفى الجامعة .. و بدأت بقياس نبضها .. و شم رائحة فمها .. و قالت له ( عندك ملح ؟؟ أو أي شيء مالح ) قال ( عندي هذا !! ) و أخرج شرائح البطاطس المملحة .. و بدأت تأكلها .. و هي و تقول له ( جاها هبوط من الخوف يمكن .. بس لو تاكل هالملح بيرتفع ضغطها إن شاء الله ) ..

و هو ساكت غير متأكد من ما يراه .. و بدأ يدعي على الحكومة و على الدفاع المدني .. و يلعن و يسخط .. و قالت السيدة ( الله لطيف بعباده ) بعد دقائق بدأت نوره تستعيد شيء من وعيها .. و قامت السيدة بغسل وجهها بالماء .. و طلبت منها أن تأكل من البطاطس .. و حينها قال أحمد ( الله يجزاك خير الله يوفقك و يستر على عيالك ) .. نوره بحالة من التوهان تتساءل ( محد كلمك من عيالك ع الجوال ؟؟ و لا فكرتي تكلميهم ؟؟ ) ..

سكتت السيدة .. فكررت نوره السؤال باستغراب .. قالت السيدة ( بصراحة ما عندي رصيد بجوالي .. و هم ما اتصلوا و أنا بأجلس على الأمل إلى ما أوصلهم ) مباشرة قدمت لها جوالها و طلبت منها الاتصال على أبنائها أو أحد الجيران حتى يقوم باللازم .. فأخذت الجوال و اتصلت على ابنها .. و قال أنه أخذ إخوته و أخواته إلى سطح بيتهم .. و قفزوا إلى بيت جيرانهم الذي يكاد يكون ملاصقا لهم .. و هم هناك الآن ..

بعد ساعات من الانتظار في ذلك المكان .. و في الساعة الرابعة .. بدأت المياه تقل في الشارع و قوة السيل تلك التي كانت تهز السيارة بقوة كانت تسحب من مياه الشارع الغارق … و كانت رحمة من الله لهم .. و في نصف ساعة تقريبا من الترقب من الجميع .. على أنغام الطائرات العمودية التي كانت على ما يبدو تصور جدة من الأعلى .. أصبح الوضع أفضل للتحرك من المكان .. و لكن ليس باتجاه السيل الذي زاد بقوته ..

قرر أحمد العودة إلى السليمانية .. و البقاء بأحد الشقق المفروشة هناك .. عكس اتجاه سيارته .. و مشي باتجاه مقاوم للسيل الذي كان لم يشعر به بسبب وقوفه في الأعلى .. و حين حركته كانت السيارة تهتز بقوة بل أصبح في أوقات كأنه لا يتحرك أبدا ..

حاول حتى وصل إلى دوار الملك عبد العزيز .. و هناك كأنه وجد الأمل بعد خروجه من دائرة السيل القوي .. و اتجه بطريق الملك عبد الله شرقا .. بحثا الآن عن أي مكان حتى تهدى زوجته .. بعد أكثر 4 ساعات من الخوف تحت المطر .. كان أقرب شيء لهم في ذلك المكان .. هو الأندلس مول ..

و جاهد و اخترق المياه المتجمعة في الطريق حتى وصل إلى الأندلس .. و نزلوا .. و شاهدوا منظر الناس هناك .. كيف أن سقف المول كان يخر منه الماء .. و الشباب و الأطفال و السيدات و الطلاب و الطالبات .. في الأرض يفترشونها .. لم تعد أماكن الجلوس في المول تكفيهم .. و كانت نظرة القهر و الذل و الأسى .. في عين كل إنسان في ذلك المكان ..

وجدت السيدة بعضا من معارفها في المول .. و شكرت أحمد و نوره على موقفهم .. و بدورهم شكروها على انقاذ حياة نوره .. و استأذنتهم .. ابتعد أحمد مع نوره عن الناس .. و جلسوا في مكان بعيد يكشف مناظر الناس و حركاتهم و بؤسهم حينها .. أحضر قهوة و صمتوا .. لتعبهم و استغرابهم من حال جدة ..

و قال أحمد ( كل من في المول له قصة معاناة .. تتوقعي يا نوره زي قصتنا ؟؟ و لا أسوء و لا أحسن ؟؟ نوره إحنا بنجلس هنا .. إلى ما ربك يفرجها .. و لا الأمانة تشوف أمانتها و الحكومة تتصرف .. أما رامي و رائد .. نستودعهم الله )

أحمد قال كل هذا بوجه بارد دون أي تفاعل و صوت هادئ دون أي تفاعل مع أي حرف .. و نوره تحرك رأسها معه بالإيجاب و الموافقة على كل ما يقول … قال أحمد ( في مصر عندهم نهر النيل .. منه استفادوا و زرعوا و شربوا .. . سموه النهر الخالد .. و أهل جدة صار عندهم السيول .. منها ماتوا و هلكوا و قهروا .. و سموه القهر الخالد ) ..

نظرت إليه نوره بصمت و دهشة .. ثم حركت رأسها مع بالإيجاب و الموافقة و قالت ( يا خالد .. لا تخليه القهر الخالد ) ..

كُتبت في صباح الخميس 27 يناير 2011 م
بقلم / هاني البلوي


تابعوا جديد شبكة أبونواف على فيس بوك وتويتر

   

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. 🙁 🙁 والله حآآآآلة إلى متى بتكون جدة كذا حسبي الله ونعم الوكيل أنا لله وإنا إليه راجعون @ الله يعينكم يأهل جدة …. ما نقول إلا حسبي الله ع الظاااالم من الأماااانة إلى الحكومة !!!

  2. شكرا لتعليق أستاذ موسى .. القصة كتبتها من خيالي .. و يومها لم أكن في جدة أصلا … لكن شعرت بما بهم من قهر من خلال الصور التي رأيت ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى