حكت لي قصتها بمرارة , لا تعلم من أين تبتديء , من النهاية أم البداية ..
فقلتُ لها : استدرجي قصتك من البداية أو النهاية ..
فقالت :
ابتدأتْ القصة منذ أن مرض والدي العزيز , و لم يستطع القيادة , كان ذلك على مشارف الامتحانات النهائية لسنتي الرابعة في كلية الطب , حتى تاه بي الأمر بين الكتب و المحاضرات و بين البحث عن سائق في ظلّ أزمة إيجاد أحدهم في معترك الحياة و بين هروب السائقين و معدومي الإقامة , و أيضاً لا إخوة ذكور ..!
اليوم الأوّل لامتحاناتي , انسللتُ من منزلنا كاللص , و الوالد مُستغرق في سباتٍ عميق لم يكن ليرضَ بذلك لولا أن تكالبت الأمور , فهممتُ ببادرة الهروب قبل احتدام نقاشٍ في يومٍ عواقبه ما زالت في ظهر الغيب ..!
كان الشارع العام يبعد عن المنزل حوالي الثلاث دقائق , التي تمضي ببطء يكاد يشلّ قدميّ عن السّير و ما إن أصل إليه حتى أحمد الله أن انتهتْ مُغامرة لا تخلو من نظرات المُتطفلين البغيضة و أصحاب المحلات التي يخرج بعضهم لتفحّص الخطب بفتاة تخرج في الصباح المُتأخر وحدها , و نظراتٌ لا بدّ أن يرافقها شيء من الايحاءات القذرة , لكن التجاهل و إسدال (الطرحة ) على كامل الوجه كفيلان بإنهاء أزمة الثلاث دقائق ..
و ما أن أقف في الشارع العام , حتى تبدأ لحظات انتظار ( الليموزين ) , تحت لهيب شمسٍ قاربت أن تمحي الظلال ..
و حتى تبدأ الحكايات ..!
يُخرج أحد ( شبابنا ) رأسه القبيح من نافذة سيارته ( الدردعة ) , يهتف و يطلق كلمات غزل مُبتذل , منتهي الصلاحية ..!
و أحدهم يرفع صوت الأغاني الصاخبة , ( في القايلة ) مُعلناً شبابه و امتلاؤه بالحياة و لا بأس من بعض الرقصات ( الهمجيّة ) المُصاحبة للنغمات , ليظنّ نفسه ( كول على طول ) !!
و حتى الباصات لم أسلم من أذى سائقيها , إذ لا يتورّع أحدهم عن رشق ابتسامة خبيثة و تهدئة سرعته مقترباً من الرّصيف كغيره ..!
فرحتُ كثيراً عندما أقبلت سيارة ( ليموزين ) من الشارع الآخر , متجهةً نحوي , يقودها شاب ( سعودي ) , و ما إن اقترب من الرصيف حتى أخرج رأسه ليضحك و يسخر من انتظاري , و تركني و مضى , و أنا ما زلتُ أشتاط بالانتظار و الحنق في آنٍ معاً ..!!
جاء الهندي ( المسكين ) , أخيراً و ارتحلتُ إلى المستشفى لأداء الامتحان ..
انتهى اليوم الأول و لم يكن القادم بأفضل من سابقه , ففي أحد الايام قبل مضي ثلاث دقائق الخطر و قبل وصولي للشارع العام , جاء ذلك الليموزين من خلفي , يقودهُ أحد أشاوس بلادي الأفذاذ , و ما إن ركبت و قلت له : المستشفى الجامعي , حتى ضحك و قال : ( و الله ماني فاضي لمشاوير بعيدة ) ..!!
و خرجتُ ألعنه و ألعن …… ( طووووط ) >> عُذراً خارج نطاق التغطية …… !!
و كالعادة , دقائق طويلة تحت الشمس حتى قارب جسدي الاستواء بين مطرقة الانتظار و سندان الأعين اللعينة ..!!
استمرّت الأيام متشابهة , حتى اليوم الأخير من امتحاناتي الذي و بفضل الله وجدتُ سائقاً به , فانتهى ذلك اليوم باحتفال جميل و بسيط مع الرفيقات في ( كوفي شوب ) , و لأوّل مرّة بلا معاناة أخرج و أعود إلى منزلي , و أتنفّس بأريحيّة أيضاً ..
مضتْ الأيام هادئة , لا يُعكّر صفوها شيء , حتى جاء اليوم الذي ( فلسع ) السائق به , كان ذلك في يومٍ من أيام رمضان فكان ذلك إعلاماً بالعودة للأيام الخوالي , و سرد اللعنات من جديد على كلّ مُستحق ..!
عند عودتي للمنزل عقب رحلة تسوقيّة تعيسة , قررتُ النزول في منزل أختي القريب كان السائق أحد ( شيّاب البلد ) المُكتسي منظرهُ وقاراً , ومشتعلاً رأسه شيبا ..
يبدو على أعتاب الخمسين ( شتاء ! ) ..
إلاّ أنّ هندامه ليس ببعيد عن هندام شخصيّة ( مناحي ) الكوميديّة ..!
عند قربي من المنزل بدأ بالعروض :
إذا تحتاجين مشاوير بين وقت و الثاني , خذي الرقم و اتصلي فيه و أوصلك ..
>> بدأت أحسبها كانتهاز فرصة الخلاص من لعنات الرصيف و الدقائق الثلاث
قلتُ باقتضاب : نعم
قال : موظفة ؟
قلتُ باقتضاب لئلا أفتح مجالاً للحوار : نعم
فقال بحماس : شكلك مو متزوجة , إذا تتزوجين مسيار من شايب مو أحسن لك ..؟!
أنا : …؟؟؟؟!!!!
ثمّ صرختُ عقب إفاقتي بعد ثوانٍ : أعوذ بالله
عاود عرضه و هو يثني على من حللّه ..
فصرختُ أخرى : أعوذ بالله ..
عاود عرضه ثالثه , فأشرتُ إليه أن قف هنا , رميتُ الحساب و أنا مازلتُ أقول : أعوذ بالله ..
صعدتُ السلالم و أنا لا أشعر بوزني , لم أشعر سوى بضربة قدمي البسيطة بإحدى درجات السلم , ما إن وصلت لأختي مُنهكة مسيرة شهرين , حتى جاء طفلها ذو الأربع سنوات : يا خالة دم في رذلك ( رجلك ) ..!
طهرت الجرح الغائر , و ضمّدته , و ما زلتُ ألعن حتى حين ..
و أستعيذ بالله من كلّ شيطان رجيم ..!!
و ما زال الجرح للذكرى ..!!
انتهى سرد معاناتها باقتضاب حفظها الله ..!
مُستحيل
لمراسلتي