غزَّةُ .. بعدَ الاِبتلاءِ تمكيْن !
لن أستكينَ ألا اقْصِفُوا ..ودماءَ أبنائي ارشفوا
لن أستكين ومِنْ شراييني دمائي تنزفُ
لن أستكين , ودمعُ أطفالي اليتامى يذرفُ
لن أستكين فقطّعوا لحمي ومن قلبي اغرفو
مدخل :
سأل رجل الشافعي رحمه الله فقال : يا أبا عبد الله ، أيُّما أفضل للرجل : أن يُمكَّن أو أن يُبتلى ؟ فقال الشافعي : لا يُمكَّن حتى يُبتلى ، فإن الله ابتلى نوحاً ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمداً صلوات الله وسلامه عليهم ، فلما صبروا مكَّنهم ، فلا يظنُّ أحدٌ أنه يخلُصُ من الألمِ البتة .
قلتُ : ومصداقُ ذلك في كتابِ ربِّنا جلَّ وعلا : إنَّ مع العُسرِ يُسراً .. فإنَّ معَ العُسرِ يُسراً
قال الإمامُ اِبنِ القيم – رحمهُ الله – معلقاً على مقالة الشافعيِّ السابقة : وهذا أصلٌ عظيم ، فينبغي للعاقل أن يعرفه ، وهذا يحصلُ لكل أحد ، فإن الإنسان مدنيٌ بالطبع ، لابد له أن يعيش مع الناس ، والناس لهم إراداتٌ وتصورات يطلبون منه أن يوافقهم عليها ، وإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه ، وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب ، تارة منهم وتارة من غيرهم ، ومن اختبر أحواله وأحوال الناس وجد من هذا شيئاً كثيراً .
وبدايةً أيَّها الإخوةُ المؤمنون .. أحسنَ اللهُ عزائي وعزاءكم جميعاً في اِستشهادِ الشيخِ القائدِ البطل : سعيد صِيام وزيرِ الداخليةِ الفلسطينيّ – رحِمهُ اللهُ رحمة واسعة – نحسبُهُ عندَ اللهِ شهيداً ولا نُزكِّي على اللهِ أحداً من خلقِه .. كما أسأله سبحانه وتعالى أن يحفظ ما بقيَ من قادةِ الجهادِ والقتال في أرضِ غزة ..
أيها الأحبة : لا شكَّ أن ما يحصُلُ من ابتلاءٍ وكربٍ على أهلنا في غزة هوَ أمرٌ مؤلم وواقِعةٌ مُحزنة ..
بيْدَ أنهُ حينَ ينظُرُ المرءُ برويَّة وتريُّث في بواطنِ هذهِ الأحداث ليُدركُ بيقينٍ يصحَبُهُ تفاؤلٌ واستبشار أنَّ اللهَ عز وجل يُخفي في رحِمِ هذهِ المِحنة والمُعاناة ما يكونُ فيهِ الفوزُ والنصرُ والتمكينُ – بإذنِ الله –
أيَّها الكِرام : لقد كشَفت محنةُ غزة الوجهَ القبيحِ للنفاق والفُسوق حينَ يُزمجِرُ ويُزبِدُ في كلِ فتنةِ وبلّيِةٍ تنزلُ بالمؤمنين .. ليميزَ اللهُ الخبيثَ من الطيِّبِ ويجعلَ الخبيثَ بعضهُ على بعضٍ فيركُمهُ جميعاً فيجعلُهُ في جهنَّم أولئك همُ الخاسرون و ما كانَ اللهُ ليَذَرَ المُؤمنينَ على ما أنتم عليهِ حتى يميزَ الخبيثَ من الطيِّب .. وعن خُرَيْمَ بْنَ فَاتِكٍ الْأَسَدِيَّ قال : أَهْلُ الشَّامِ سَوْطُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ يَنْتَقِمُ بِهِمْ مِمَّنْ يَشَاءُ كَيْفَ يَشَاءُ وَحَرَامٌ عَلَى مُنَافِقِيهِمْ أَنْ يَظْهَرُوا عَلَى مُؤْمِنِيهِمْ وَلَنْ يَمُوتُوا إِلَّا هَمًّا أَوْ غَيْظًا أَوْ حُزْنًا ، انفرد به أحمد وإسناده صحيح موقوف .
يقول ابن القيم – رحمه الله – في كتابه إغاثة اللهفان (2/273) :
الأصلُ الثامن : أن ابتلاء الله بغلبة عدوِّهم لهم وقهرِهم وكسرِهم لهم أحياناً فيه حكمةٌ عظيمة لا يعلمها على التفصيل إلا الله عز وجل ..
فمنها : استخراج عبوديتهم وذُلِّهم لله وانكسارهم له وافتقارهم إليه وسؤاله نصرهم على أعدائهم ، ولو كانوا دائمين منصورين قاهرين غالبين لبطروا وأشروا ، ولو كانوا دائماً مقهورين مغلوبين منصوراً عليهم عدوهم لما قامت للدين قائمة ، ولا كان للحق دولة ، فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين ، أن صرفهم بين غلبهم تارة ، وكونهم مغلوبين تارة ، فإذا غُلِبوا تضرعوا إلى ربهم ، وأنابوا إليه وخضعوا له وانكسروا له وتابوا إليه ، وإذا غَلَبوا أقاموا دينه وشعائره ، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، وجاهدوا عدوه ، ونصروا أولياءه .
ومنها :- أي من الحِكَم- أنهم لو كانوا دائماً منصورين غالبين قاهرين لدخل معهم من ليس قصده الدين ، ومتابعة الرسول ، فإنه إنما ينضافُ إلى من لهُ الغلبةُ والعزَّة ، ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائماً لم يدخل معهم أحد فاقتضت الحكمة الإلهية أن كانت لهم الدولة تارة وعليهم تارة ، فيتميز بذلك بين من يريد الله ورسوله ، ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه .
إذاً : التمييز بين الصادق من غيره ، من حِكَم ابتلاء الله المؤمنين ، تمييز الخبيث من الطيب { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ } [ آل عمران :179] هذا هو الأصل { حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ } كيف نكتشف إسلام هذا الإنسان إلا بالابتلاءات والفتن والشدائد ، هنا يتضح المؤمنون الصادقون ، ويتضح المنافقون الذين أصابوا قلوبهم بالخوف ، والهلع عند الشدائد والمحن .
وكفى بهذه الحِكَمِ والدلالاتِ نصراً وتأييداً وتمكيناً ..
غيرَ أنَّ المنافقينَ والخونةَ والعُملاءَ على مرِّ العصورِ هم أسبابُ سقوطِ الدولِ وضياعها .. إنهم كالسُّوس ينخرُ في عِظامِ الأمة ويّفُتُّ في عضُدِها ..
بيدَ أنَّ الواقعَ يُبشِّرُ بأكثرَ من ذلك .. فهاهي إسرائيلُ تترنَّح على أرضِ غزة جراءَ ما تواجهُ من مُقاومةٍ باسلة تحرِصُ على الموت وتأبى الدنيَّةَ والذُل .. بلْها تُقدِّمُ قادتها وكُبراءها قبل أفرادها وجنودها .. لتُبيِّن لنا مدى العجز والخور والضعف الذي وصل إليه الكيان الصهيوأمريكي وعملاؤُه في فلسطينَ بشكل خاص وبلادَ العربِ عامة ..
وتأملوا معي يا أحبة هذهِ الآياتِ العظيمات التي وكأنها تنزَّلت اليوم حينَ تُصوِّرُ مِثلَ هذهِ الأحداث العظيمة .. وكفى بكلامِ ربِّنا عِبرةً ومنهاجاً ..
{ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ{166} وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ{167} الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ{168} وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ{169} فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ{170} يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ{171} الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ{172} الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ{173} فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ{174} إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } .
إنَ النصرَ والغلبة والتمكين لأهلِ غزة – بإذنِ الله – وإنَّ الذِلَّة والخزي والصغار لمن قاتلهم من الصهاينةِ وعُملائهم وأذنابِهم .. كتبَ اللهُ لأغلبنَّ أنا ورسُلي إنا لننصرُ رُسُلنا والذين آمنوا في الحياةِ الدنيا ويومَ يقومُ الأشهاد وإنَّ جُندنا لهمُ الغالبون فلا تهِنوا ولا تحزنوا وأنتمُ الأعلونَ إن كنتم مؤمنين
أسألُ اللهَ عز وجل أن ينصُرَ دينه .. وأن يُعليَ كلمتهُ .. وصلى اللهُ وسلَّم وباركَ على نبيِّنا مُحمد وعلى آلهِ وصحبه ..
بقلم : عبد الرحمن بن محمد السيد – تبوك
مساء السبت 21/1/1430 ه
am.daaw@gmail.com