كان الهدوء يعم قاعة الاجتماعات في الدور الرابع من مبنى المكاتب في الرق .. الجميع ينظر إلى الساعة وهي تتك الثانية بعد الثانية بإنتظار الساعة السابعة صباح
السابعة صباحا هي الساعة التي يجتمع فيها رؤساء الشركات في الرق مع العميل لمناقشة ما تم تنفيذه في اليوم السابق ووضع خطة لليوم القادم
نظرت للوجوه الحاضرة في الاجتماع .. من كل لون وشكل .. ذلك البريطاني المتثاءب .. بجانبه الانسان الضخم من جنوب افريقيا الذي لا يعرف حديثا غير الرياضة
وفي الخلف ترى بعض الوجوه التي تتجنب الضوء فيختبئون خلف المقاعد الأمامية .. لماذا تخيلت النعام في تلك الحظة ؟؟
قطع حبل تفكيري (المتكون من النعام دافن الرأس في التراب) دخول مدير العمليات في الرق .. رجل ضخم الجثة فرنسي الجنسية .. ينفع أن يكون بطلا في أحد الأفلام الفرنسية المملة
بلكنته الانجليزية العجيبة المختلطة بالفرنسية بدأ الحديث عن ملخص عمليات البارحة .. ومن ثم مناقشة كل مسؤول عن خطة اليوم
لم أملك الكثير لأقوله لكوننا انجزنا عملا طيبا في اليوم السابق (الحمدلله) .. وكعادتي -لست أدري أهي جيدة أم لا- ختمت تقريري بمزحة سخيفة ولكنها نحجت في اضحاكهم .. لك أن تتخيل سخافة النكت الفرنسية صديقي القاريء
انتقل الدور لمسؤول آخر .. انسان لطيف جدا عمره ضعف عمري .. وبدأ في سرد ما جرى بيومه السابق
بدأ الفرنسي بتوجيه اسئلة سخيفة لذلك الرجل الطيب .. يلومه فيها على بعض الأخطاء التي حدثت
لم تكن تلك الأمور أخطاء ذلك الرجل على الإطلاق .. توقعت أن يشتاط ذلك الرجل غضبا .. عفوا أقصد أن يرد على ما قاله الفرنسي بهدوء وعقلانية
لكني تفاجأت بإقراره على تلك الاخطاء .. بل وإعتذاره عنها وأنه لم يعيدها مرة أخرى .. لم ينتهي الامر عند ذلك الحد .. بل وصل الأمر لحد التهزيء وما زال ذلك الرجل يعتذر
انتهى الإجتماع .. ويقيت في رأسي علامات استفهام كثيرة .. مالذي دفع ذلك الرجل لتقبل كل ذلك التهزيء ؟؟
نسيت الموضوع برمته بعد الإجتماع إلى أن حان وقت الغداء .. جمعتني الطاولة بزميل لذلك الرجل .. وهو صديق لي
وجدت نفسي اسأله بلا تفكير مسبق عما حدث في ذلك الصباح .. فقد كان ذلك الرجل جيدا في عمله بل ومخلص
أجابني: هذه ليست المرة الأولى .. والكل يعرف هذ
استغربت .. وفهم صديقي أنني اريد المزيد من الايضاح
أردف قائلا: المال يا صديقي
قاطعته .. وما دخل المال ؟؟
بدأ صديقي في سرد قصة ذلك الرجل
يملك ذلك الرجل من الخبرة ما تؤهله لأن يكون مدير قارة بأكملها في مجال عمله .. لكن بطبيعة العمل الميداني فإن ما تجنيه في عملك بالحقل قد يصل لضعف ما تجنيه بعملك في المكتب
ولكونه على مشارف بداية زواج وبداية عائلة فقد رفض جميع العروض التي قدمت له لأن ينتقل للعمل المكتبي .. الحاجة للمال
وأخذته السنون وبقي على عمله الميداني قرابة العشر سنين .. وهو على نفس المرتبة ونفس الحال .. ولكن ليس على نفس العمر
لم يكن يعلم في حين اتخاذه ذلك القرار ببقاءه في العمل الميداني أن سياسة العمل ستتغير .. وأن التوجه سيتحول نحو توطين صغار العمر في العمل الميداني
وهو ما حدث في هذه السنين الأخيرة .. بدأت الشركة في فصل كثير ممن اتخذوا نفس قراره على اتفه الأخطاء
ولعل رده على ذلك التهزيء سيكون سببا كافيا “في نظر إدارته” لصرفه من العمل
سرحت عن بقية القصة .. تذكرت حديثتي مع ذلك الرجل منذ يومين
لديه 4 ابناء لطيفين جدا .. ابن في السادسة .. وتوأم ثلاثي في الثالثة من العمر
أخبرني عن خطته في الاجازة القادمة للسفر من أجل حفل ميلادهم .. حيث لا يفصل عن التوأم وابنه سوى اسبوع
حينها أدركت ماذا كان يدور في خاطر ذلك الرجل وقت ذلك السيل الماطر من التهزيء
كانت صور أبناءه الاربعة تجول في خاطره .. كم سيكون رده مكلفا حين يكون الثمن تقصيره في حق عائلته
قبل التنازل عن كرامته بل وحقه من أجل عدم المساس بمصدر رزق الأسرة
أحترمت تفكير ذلك الرجل -ولست في موقف اتفاقي أو اختلافي بما يفعله- .. فهذا مثال لإنسان لا يملك من الدنيا سوى عوائد ذلك العمل
يضطر لترك أسرته شهرا كاملا منقطعا بعيدا وسط البحار .. من أجلهم .. ما أجمل تلك التضحية
قد لا ندرك النعمة التي نحن فيها حتى نرى مثل تلك الأمثلة .. قد تكون كافية لأن تخرجنا من الفقاعة التي نعيش فيها ونرى غيرنا كيف يعيشون
ونحمد الله على نعمه
أحمد
@AAJunaid
للتعقيب
هـنـا
تابعوا جديد شبكة أبونواف على فيس بوك وتويتر