طفولة وطفولة ..!

ابتسم وأنا أتأمل صوراً عديدة .. طفلٌ سنين حياته بالكاد تصل إلى الثامنة ، يحاول موازنة شماغه ، الذي يصل إلى أطراف قدميه ، وهو يمثل الملامح الجادة على وجهه بطريقة جميلة في أحد الدروس الدينية ، جالساً بجوار والده ، ثم صورة أخرى لطفل مر أمامي ، جذب فرامل دراجته الهوائية بقوة ، مرتكزاً على قدمه ليؤدي حركة دائرية مثيراً عاصفة من الأتربة ، نزل عن دراجته واتجه إلى كومة من المخلفات المرمية في الشارع ، أدخل يده بينها ، أتأمله مستغرباً ، رمقني بنظرة متحدية ، وتابع بحثه ، خرج من تلك الكومة ، بأربع علب بلاستيكية فارغة ، إحداها تأملها ، ثم رماها فوراً ، وازن بقيتها بين أصابعه ، رمى أخرى ، اتجه بما تبقى إلى دراجته حاول حشرها بين الإطار الخلفي وقطعة الحديد التي تصله ببقية جسم الدراجة ، أما إحداها فنجح ، وأما الأخرى فلم تثبت لذا ألقاها ، ركب دراجته ، أسرع بها ، وهو يرفع رأسه طارباً للصوت الصادر عن احتكاك العلبة بالإطار ، في وقت آخر طفل في إحدى المكتبات ، يترك يد والده ، ويتجه إلى قسم الأطفال ، يسحب قصة مصورة يفتحها ويتأمل رسوماتها باستمتاع ، أسمعه يحاول “تهجي” حروفها ، يعود إلى والده ركضاً وهو يشير إليه بالقصة ، وأخيراً طفل يقف بجوار سيارة كبيرة ، هو بجانبها بالكاد يصل إلى مقبض الباب ، يمسك بين أصابعه خرقة سوداء ، وبجانبه علبة ماء صغيرة ، ينظف السيارة باستمتاع ، محاولاً أن يغسل كل ما يستطيع أن يصل إليه ، يشير إلي حين شاهدني أمر بجانبه ، ويصرخ بصوت يحاول أن يخشنه بقدر ما يستطيع : ” هاه تشتري السيارة ” ، مشاهد نراها كثيراً ، ونرى ما يشابهها كثير ، نتأمل أطفالنا ، ونرسم في أعماقنا مئات الأحلام ، نرى كبرى المناصب ، تلك التي نعتقد أنها لم توجد إلا من أجلهم ، نتأمل باقي الأطفال بعين النقص ، بينما أبناؤنا هم من حصلوا على أفضل الصفات كذا نراهم ..

تصل نظرتنا هذه في أحايين إلى نظرة الحسد تلك التي يمتزج فيها مع الحسد نوع من الكره ، و مع كل هذا نحاول قدر استطاعتنا تحبيط بعض الصور الذهنية لدى الآخرين عن أبنائهم ، رافعين – بقصد أو بدون قصد – أسهم ” أفعال ” أطفالنا ، لنجعلهم هم حقاً الأبناء الذين يحلم الجميع بأن يصل أولادهم إلى مستواهم ، هنا تتباين مواقف الناس ؛ فمنهم ذاك الذي يبني تلك الأحلام في عقله ، ثم يترك الفعل كله للزمن ، وآخر يبدأ بالفعل حتى إذا ما رزق بطفل آخر ، وازداد انشغاله ترك كل شيء ، أو أنه يخفف تلك الجرعة القوية ، فتصبح بدلاً من أن تكون تغذية متكاملة ، هي – فيتامينات – تزيد في قوة الجسد إذا ما تفاعلت معها عوامل أخرى ، فيظهر لدينا في بعض الأسر تميّز الابن الأكبر عن بقية إخوته بشكل واضح ، وصنف تظهر لديهم العناية بشكل مبالغ فيه ، حتى ترى في الأبناء نسخة من الأب أو الأم ، لكن حين تضعه في موقف ينفرد فيه برأيه ، لربما ارتبك ولم يعد يدري أي جهة يختار .. حين يصل الحديث إلى التوازن بين هذه الحالات الثلاث ، أجد أن الأمر صعب ، إذ أن دنيانا ، ليست طريقاً مستقيماً ، خالياً من كل عائق ، سيظهر – تَقَدَّمَ أو تأخرَ – عائق يجعل أحد الوالدين أو كليهما ، ينشغلان عن الأطفال ، سواء أكان ذاك العائق مستمراً أو مؤقتاً ، هنا تبرز أهمية الرؤى التربوية المشتركة ، والنظرة الواضحة لمستقبل الأبناء بين الوالدين ، ليستطيع أحدهما أن يتوازن في قيادة سفينة الأسرة أثناء غياب الآخر ، وحتى يمكن عمل نوع من التعويض في حال كان غيابهما مشتركاً ، كذا في الغالب أن عنايتك الجيدة بأول أبنائك ستمنحك الراحة في تعاملك مع بقية أبنائك ، إذ أنه سيكون عوناً لك – بعد مراعاة جوانب معينة – في رعاية بقية الأبناء ، بل وزرع قيم ، ربما ما كنت لتستطيع أن تزرعها أنت .

حين يخطط أي فرد لأبنائه ، يرسم أحلاماً جميلة ، من المهم مراعاة الواقعية فيما تتوقعه من طفلك ، لا تجعل طفلك يعرف أنك تتوقع منه أكثر مما يحتمل ، يلاحظ هذا في قَلَقِهِ الشديد حين يقوم باتخاذ أي قرار بمفرده ، ولعل هذا يتضح أكثر لدى المراهقين ، حين تجد بعضهم قَلِقاً بشكل مبالغ فيه أيام الاختبارات ، كنت أتحدث مع أحدهم فقال لي : ” أهلي متوقعين أني بدخل كلية الطب ، وأخاف ينزل معدلي فما أقدر أدخلها ” ، ليس أسوأ من التوقعات المبالغ فيها تلك التي تدفع بهم إلى هذه السلسلة المتعبة من التردد والخوف .. و لا يعني هذا بأي حال أن نخفض سقف توقعاتنا إلى مادون المعقول ، فنحن نريد وسطاً بين طفل متردد خائف ، وبين طفل ” بليد ” أكثر من اللازم .
كذا لا ننسى أن ابننا ، هو قبل كل شيء طفل ، أن نحرمه طفولته ، نحرمه حريته ، نسحبه إلى مجالس الكبار ، نحبسه عن أقرانه لـ ” يسترجل ” ، سيء جداً في حقه ، رائع لو حددنا الوقت المناسب له ليلعب ، والوقت المناسب ليحضر مجالس الرجال .
طفلك هو جزء من مجتمعه ، يرى ألعابهم ، يشاهد الأفلام الكرتونية التي يتابعونها ، يرى حياتهم وطبيعتها ، أن تحرمه منها ، بحجة الحفاظ عليه ، دون إيجاد بديل ، كذا دون إقناعه بسبب ذاك المنع ، تصنع منه متسللاً يستغل أي غفلة ليبحث عن ثغرة يخرج من خلالها ليشبع نهمه إلى ما أبعدته عنه .
في طفولتنا ، ربما نكون قد واجهنا فقراً ، أباً قاسياً ، حرماناً مما نريد ، أن نعكس الصفة بشكل كامل ، ونغدق على أبنائنا المال بشكل مبالغ فيه ، أو نمنحهم حريتهم أكثر مما يلزم ….
كذا نشبع رغبة نفسية داخلية لدينا ، ونصنع مشكلة ربما كانت أكبر من تلك التي عانيناها ، فلا تقلب ماضيك على حاضرك .
مثله ذاك الذي يريد أن ينشىء أبنائه كما رباه والده تماماً ، متناسياً عوامل الوقت والمجتمع ، ولعل من أجمل ماذكر في هذا ، مقولةً وردت في بعض كتب التراث : ( لا تقسروا أولادكم على آدابكم ، فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم )

ثم حين نصل إلى لحظة نبغي فيها معاقبة طفلنا ، ثَمَّ نقاط يجب أن ننتبه لها ، منها :
– الطريقة القديمة التي انتشرت على يد الدكتور : بنجامين سبوك ، حول عدم جدوى العقاب ، مقارنة بغيره من الطرق ، أثبتت فشلها ، وقل أتباعها ، لكن الذكاء في معرفة العقاب المناسب الذي من خلاله ، تعالج دون أن تؤذي ..!
– ثَمَّ طفل ، وثَمَّ خطأ .. لا تنسَ أن بينهما اختلاف ..!
– نجاح نوعية معينة من العقاب استعملها أبٌ آخر تعرفه ، لا يعني أنها ستناسب ابنك ، فلكل شخصيته ، ولكل بيت طبيعته .
– أن تعاقب وفي نفسك الغضب ، ذاك قد يقودك إلى أفعال تندم عليها كثيراً ، جميل لو أخذنا بطريقة إحدى الأمهات تلك التي نشرت قصتها في أحد الكتب ، حين تغضب وتنفعل عودت نفسها أن تذهب إلى غرفتها تغلق الباب ، تمسك بوسادة نومها تضربها ، تركلها ، تفرغ كل غضبها عليها ، دقائق ثم تخرج وقد هدأت ، تذهب لتعالج تلك المشكلة .
– بعض أنواع العقاب ، هي وَسْمٌ يطبع على نفسه ، فيفسد أكثر مما يصلح .
– نظرة عتاب أحياناً ، هي أبلغ بكثير من كلمات توبيخ كثيرة ..!
– العقاب ليس دوماً هو الحل ، فالتغلب على المشكلة ، التي من أجلها حصل ذاك الخطأ ، أهم كثيراً من ذات العقاب ، ولعل في قصة ذاك الطفل أبلغ مثال ؛ حين أخرج علبة الحليب من الثلاجة ، حاول فتحها بقوة ، انفتحت ، ثم ترنحت وسقطت لتتحول الأرضية كلها إلى اللون الأبيض ، أتت الأم ، ابتسمت مطمئنة ابنها ، حملت علبة الحليب ورفعتها ، سألته : هل نعاون بعضنا في التنظيف ..؟
بعد أن عادت الأرضية إلى بريقها ، حملت العلبة الفارغة وأمسكت بيده ، خرجا من المنزل ، قالت : المشكلة الآن أنك لا تجيد فتح علبة الحليب بشكل مناسب ، يمنع ما بداخلها أن ينسكب .. دعنا نحاول معاً تَعَلّم طريقةٍ نفتح من خلالها العلبةَ ، دون أن يسكب ما بداخلها ..
ملأت العلبة بالماء .. وأخذت تتدرب وطفلها على الطريقة المناسبة لفتحها ..!
أخيراً .. إحدى أهم القواعد المعروفة فيما يخص السلوك البشري ، أن وراء كل سلوك مقصداً إيجابياً ، تَفَهّم سر خطأ ابنك ، ناقشه .. اعرف السر خلف ما فعله .. قد يكون أخطأ لكن نيّته التي من أجلها قام بذاك التصرف يستحق لأجلها المكافأة .. فحين يحطم طفل صحناً زجاجياً غالياً ، ألا يحتمل أنه حَمْلَه له ، كان فقط ليقدم لك من الحلوى التي بداخله ..؟!
وقس على ذلك ما قاربه ..

ثم .. أولاً وأخيراً نحن بشر ، تهزنا المواقف ، قد يصعب علينا توجيه أنفسنا في كل لحظات حياتنا .. لكن أن نضبط 40% ، خير من تركنا لكل شيء مهملاً ..
كل شيء في البداية قاس متعب ، لكن محاولاتنا المستمرة ، ستجعل الصعب علينا ، عادة نفتقدها إن لم نفعلها ..!

قلم : جابر بن عبدالعزيز المقبل
أٍسعد بكم على مواقع التواصل الإجتماعي :

Exit mobile version