ثقلاء الطينة !!


الثقلاء أو كما نسميهم بالعامية : ثقيل الدم أو ثقيل الطينة أو العلة أو اللزقة أو غيرها من المسميات المتداولة ، كلها تشير إلى شيئ واحد وهو : أن هذه الفئة من الناس موجودة في كل زمان ومكان ، وأن الجميع يخشى أن يصادف أحدهم في مكان ما أو وزمن ما ! .
بل إنه لا يسلم أحد من تسلط أحد هؤلاء الثقلاء عليه في أي وقت من حياته ، والأدهى والأمر أن تكون مجبرا على العيش مع أحدهم أو قريبا منه ، والمصيبة الأعظم أن يكون ذو صلة بك من ناحية الدم أو المصاهرة فتلك بلية وأي بلية ! .
وكم تبادل الناس الشكوى والتنفيس من معاناتهم مع هؤلاء القوم في مجالسهم ، أو منتدياتهم ، وإنك لتسمع العجب العجاب من مواقف هؤلاء وتسلطهم ، وبلادتهم ، وصفاقتهم ! ولا أعلم حقيقة هل يشعر هؤلاء بأنهم ثقلاء ؟ فيتعمدون صنيعهم في الناس ! أو أنهم يظنون أنفسهم خفافا أو حتى ظرفاء !! .
ولا أشعر أني بحاجة لوصف هؤلاء الثقلاء ووصف أفعالهم ! فلا أظن أحدا يخفى عليه صفاتهم ، وأفعالهم ، ومواقفهم ، وجل ما أخشاه في حياتي أن أكون ثقيلا على أحد من الناس لا سمح الله ! .
ولهذا فإن كرام الناس يتمنون الموت على حياة تثقل كاهل غيرهم ! .
فهذا فارس هوازن وشاعرها صخر بن عمرو الشريد ـ شقيق الخنساء حينما أصابته طعنة في غزاة أقعدته مريضا ، وقط طال مرضه وقعوده وعجزه ، وكانت أمه إذا سئلت عنه, قالت: نحن بخير ما رأينا سواده بيننا , وكانت امرأته (سليمى) إذا سئلت عنه, قالت: لاهو حي فيرتجى, ولا ميت فينتسى وكان يسمع ذلك كله , فقال صخر وقد كره الحياة :

أرى أم صخر لا تمل عــيادتي
وملت سليمى مضجعي ومكاني
إذا ما امرؤ سوى بـأم حـليـــلة
فلا عــاش إلا في شـقا وهوان
لعمري لقد أيقظت من كان نائما
وأسمعت مــن كانت له أذنــان
بصيرا بوجه الحزم لو يستطيعه
وقد حــيل بين الـعير والنزوان
وللمــوت خيــر من حياة كأنها
محلة يعســوب بـــرأس سنان

وكانت أخته الخنساء قد وفت له ، ورثته بقصائد خالدة .
ونعود لموضوعنا عن الثقلاء ، وقد عرفوا على مر التاريخ ؛ فقيلت فيهم القصائد ، وأثرت عنهم القصص والمواقف ، فمن ذلك ماذكره صاحب كتاب الأغاني أبو فرج الأصفهاني إذ يقول : أخبرني وكيع قال حدثنا أبو أيوب المديني عن محمد بن سلام قال: قال هلال الرأي – وهوهلال بن عطية – لبشار وكان صديقاً يمازحه: إن الله لم يذهب بصر أحد إلا عوضه بشيء، فماعوضك ? قال: الطويل العريض؛ قال: وماهذا? قال: ألا أراك ولا أمثالك من الثقلاء. ثم قال له : ياهلال أتطيعني في نصيحة أخصك بها ? قال نعم ؛ قال : إنك كنت تسرق الحمير زماناً ثم تبت وصرت رافضياً ، فعد إلى سرقة الحمير، فهي والله خير لك من الرفض قال محمد بن سلام : وكان هلال يستثقل ، وفيه يقول لبشار:

وكيف يخف لي بصري وسمعي
وحولي عسكران من الثـقـال

قعوداً حول دسكرتي وعـنـدي
كأن لهم على فـضـول مـال

إذا ماشئت صبحـنـي هـلال
وأي الناس أثقل مـن هـلال .

وقد أفرد ابن عبد ربه في رائعته ؛ العقد الفريد فصلا خاصا بهم ؛ ومن جملة ماذكر : قالت عائشة أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ : نزلت آية في الثقلاء : فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستئنسين لحديث .
وقال الشعبي : من فاتته ركعتا الفجر فليلعن الثقلاء ! . وقيل لجالينوس : بما صار الرجل الثقيل أثقل من الحمل الثقيل ؟ فقال : لأن الرجل الثقيل إنما ثقله على القلب دون الجوارح . والحمل الثقيل يستعين فيه المرء بالجوارح ! .
وقال سهل بن هارون : من ثقل عليك بنفسه ، وغمك بسؤاله ، فأعره أذنا صماء ، وعينا عمياء ! . وكان أبو هريرة إذا استثقل رجلا ؛ قال : اللهم اغفر له ، وارحمنا منه ! .
وكان الأعمش إذا حضر مجلسه ثقيل يقول :
فما الفيل تحمله ميتا = بأثقل من بعض جلاسنا ! .
وقال أبو حنيفة للأعمش ، وأتاه عائدا في مرضه : لولا أن أثقل عليك أبا محمد لعدتك والله في كل يوم مرتين ، فقال له الأعمش : والله يابن أخي ، أنت ثقيل علي وأنت في بيتك ! . فكيف لو جئتني في كل يوم مرتين ! .
وذكر رجلا ثقيلا كان يجلس إليه ، فقال : والله إني لأبغض شقي الذي يليه إذا جلس إلي .
ونقش رجل على خاتمه : أبرمت فقم !. فكان إذا جلس إليه ثقيل ناوله إياه وقال : أقرأ ما على هذا الخاتم .
وكان حَمّاد بن سَلمة إذا رأى من يَستَثقله قال: رَبَّنَا اكشفْ عَنَا العَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنونَ.
وقال بشّار العُقَيليّ في ثَقِيل يُكنى أبا عِمْران:
ربم يثقل الجليس وإن كان = حنيفا في كفة الميزان
ولقد قلت إذ أطل على القوم = ثقيل يربي على ثهلان
كيف لا تحمل الأمانة أرض = حملت فوقها أبا عمران
ولآخر :
أنت ياهذا ثقيل = وثقيل وثقيل
أنت في المنظر انسان = وفي الميزان فيل
وقال الحمدوني في رجل بغيض مقيت :
في حمير الناس إن كنت = من الناس تعد
وقد أنبئت إبليس = إذا رآك صد
ولحبيب الطائي في مثله ، أي في رجل مقيت :
يامن تبرمت الدنيا بطلعته = كما تبرمت الأجفان بالرمد
يمشي على الأرض مختالا فأحسبه = لبغض طلعته يمشي على كبدي
لو أن في الأرض جزء من سماجته = لم يقدم الموت إشفاقا على أحد!
وقال أيضا :
يامن له في وجه إذا بدا = كنوز قارون من البغض
لو فر شئ قط من شكله = فر إذا بعضك من بعض
كونك في صلب أبينا الذي = أهبطنا جمعا إلى الأرض !

وقال أبو حاتم : وأنشدني أبو زيد الأنصاري النحوي صاحب النوادر :
وجه يحيى يدعو إلى البصق فيه = غير أني أصون عنه بصاقي
قال : وأنشدني :
قميص أبي أمية ماعلمتم = وأوسخ منه جلد أبي أمية .
انتهى كلام ابن عبد ربه .
وأما سمات الثقلاء وعلاماتهم فهي لا تعد ولا تحصي ، وكل إنسان يرى منهم شيئا قد لا يراه آخر ، ولذلك فلا ضابط لدينا نقيس به الثقيل إلا عن طريق إحساس من يجالسهم بالعطب منهم وضيق النفس ؛ فهو الضابط الأهم ! .
وقد نجتهد في ذكر بعض ملامح هؤلاء الثقلاء فنقول :
ـ البحث عن الطعام ، وتصيد أوقات الولائم والقدوم بلا دعوة
ـ كثرة الزيارة ، وطرق الأبواب بلا موعد سابق
ـ كثرة القعود ، وطول الإقامة بدون شعور بأهمية الوقت ومراعاة ظروف الغير
ـ كثرة الحديث واللغط ، والإفتاء في كل الأمور ، والمشاركة في كل نقاش بلا دراية ، والثقلاء يحسبون أنفسهم يفهمون في كل الأمور ، وأعجب كل العجب من شعور الثقة المفرطة لديهم أثناء حديثهم ، وكأنهم يتحدثون عن علم وقراءة وتبصر ! .
ـ كثرة الطلب واللجاجة للحصول على مصالحهم ، من أصحاب الجاه ممن تربطهم بهم أدنى معرفة ، والأدهي والأمر أنهم يجلبون أصدقائهم وأصدقاء أصدقائهم لمن يقدم إليهم خدمة ، ليفاخرو بذلك وليعلموا الجميع بأنهم أصاحب شان ، وأن لديهم ظهر وعون ، والضحية من ابتلي بمساعدة أحدهم في أول الأمر ! .
ـ التدخل في شؤون الآخرين ، وكثرة الأسئلة الفضولية ، ونقل الكلام ، والإرتماء على الآخرين في كل مناسبة أو بلا مناسبة ، والإلحاح في مشاركة الآخرين مناشطهم في كل ماينمي إلى علمهم بلا استئذان أو تفهم للخصوصية ! .
وفوق ذلك كله لا يقدمون أي مساهمة مادية مقابل تطفلهم على الآخرين !.
ـ غياب الحياء بالكلية عنهم ، وصفاقة الوجه ، وبلادة الحس ، وغياب الحصافة والذائقة ! .
هذه بعض مظاهر هؤلاء القوم ، وأعتقد أن القارئ الكريم سيرد في خاطره الكثير من المظاهر التي فاتتني .!
والناس يتفاوتون في ردة فعلهم إذا ماوقعوا في حبائل هؤلاء الثقلاء ، فبعضهم لا يتردد في توبيخهم ، وإعلان الإستياء منهم ، وطردهم إذا اقتضى الأمر ! والبعض الآخر قد يستعيض بالتلميح ، والتعريض و هو يحاول التملص منهم بكل أدب وحياء ؛ حتى لا يجرح مشاعر جلسائه ، وأما الصنف الثالث فإنهم أشد الناس بلاءا ؛ وهم من لا يقوى على مناقشتهم أو مناكفتهم حياءا وخجلا وخوفا من إيذاء مشاعرهم ، فلا يملك إلا الصبر عليهم ، والتودد لهم ، ولسان حالهم كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه : إنا لنبش في وجوه قوم ؛ وإن ألسنتنا لتلعنهم ! .
والخلاصة من هذا كله ؛ أن يحذر الإنسان كل الحذر أن يكون من جملة هؤلاء ، وأن يحاسب نفسه على تصرفاته ، وأن يحذر أيضا من أن يقع تحت طائلة هؤلاء .
وأعان الله الناس من بلاء الثقلاء وتسلطهم ، فهم كالوباء ، يطوف في الأرجاء ، بلا مصل أو دواء ! .
وأختم بهذه القصة الطريقة للشاعر النابغة الذبياني ، عندما وفد إلى ملك الحيرة النعمان بن المنذر ، يرجو العطاء ؛ فلما حضر بين يديه أنشده مادحا :

تخِفّ الأرض إن فقدتك يوم = وتبقى ما بقيت بها ثقيل

فنظر إليه النعمان نظر الغضبان المستاء ؛ وذلك لأنه شعر بأنه وصف بالثقيل !

وكان كعب بن زهير حاضراً فقال تلطيفا للأجواء ، وقد كان سريع البديهة : أصلح الله الملك ؛ إن مع هذا البيت بيتاً ضلّ عنه النابغة ؛ وهو:

فإنك موضع القسطاس منها = فتمنع جانبيها أن تميل

فضحك النعمان وأمر لهما بجائزتين ، وقد حفظها النابغة لكعب بن زهير .

المهلب الرويلي
2571430هـ

Exit mobile version