منوعات

اليهود .. والهجرة

قبل أسابيع قليلة ذهبت امرأة صهيونية طاعنة في السن إلى موظف البنك الذي تودع فيه مدخراتها وقالت له: لدي عندكم حسابات توفير وصناديق تقاعد.. اصنع لي معروفاً واعطني كل الحسابات، فوجئ الموظف ورد عليها قائلا: ماذا حصل؟ هل وقعت كارثة في العائلة؟ أجابته المرأة: لا ليست العائلة، انه الوضع هنا.. اشعر بما يشعر به اليهود في كل الاجيال لا شيء هنا آمن. اريد ان احتفظ بثروتي عندي تحت الوسادة أو بعيداً عن كل ما يحدث هنا.. في مكان أحس انه آمن ربما حساب بنك في سويسرا أو شقة في نيويورك شيء ما يمنحني الامن. القصة التي نشرتها صحيفة صهيونية ليست بدعا من القصص ؛ بل تبدو أنموذجا كثيرا ما يتكرر الآن داخل الكيان الاحتلالي الغاصب ، فثمة هجرة عكسية ملحوظة تحدث لليهود و مالهم معا من أرض فلسطين المحتلة , مردها بالأساس لغياب الإحساس بالأمن في ‘ دولة ‘ لا يبعث العيش فيها على الاستقرار النفسي في ظل توقع الضربات الانتفاضية المباركة .
ربما منذ منتصف الانتفاضة الأولى بدأت الهزيمة النفسية للمجتمع الصهيوني تتنامى , حين شعر الصهاينة انهم يخسرون ويخوضون حرباً في مواجهة اطفال يخرجون بالمئات في كل المدن والقرى.. لم يعودوا يتهيبون الدبابات ورصاص الاحتلال الذي يقتل رفاقهم أمام عيونهم.. يتعاملون مع الموت كما لو كان لعبة مسلية لم يعترف اليهود بذلك علناً خشية ان تتوقف عمليات الهجرة أو تبدأ هجرة معاكسة تؤذن بانهيار الدولة , بيد أنها سرعان ما تأكدت خلال هذه الانتفاضة المباركة التي تجسدت فيها هذه الهزيمة , فقبل سنوات فقط كان قطعان المستوطنين يعيثون فسادا في فلسطين المحتلة [ 67 ] لا يردهم رادع , و كان منظر المستوطن الصهيوني المسلح يجوب بسيارته بصلف شوارع المدن الفلسطينية يخيف الأطفال و النساء , و لا يتهيبهم مبعثا على الاعتقاد بأن المستوطنين باقون إلى أجل غير مسمى في مستوطناتهم السرطانية , أما الآن فالأمر اختلف جذريا ؛ ففي نهاية فبراير الماضي كان احمد الطيبي العضو العربي في الكنيست يقوم بزيارة للقاهرة وهناك أدلى صرح قائلا ‘أصبح اليهود يقولون لنا خذوا منازلنا [في مستوطنات الضفة] وساعدونا على ان نغادر إلى داخل’ اسرائيل’ ‘ .
و أضاف متحدثا عن المستوطنين: ‘يمرون بضائقة غير مسبوقة ويؤكدون عدم قدرتهم على البقاء.. مندوبو المستوطنين قدموا لي عرضا ببيع منازلهم في المستوطنات حتى أقوم بنقله للرئيس عرفات.. وأكدوا لي ان حكومة شارون تمنع عودتهم الى داخل ‘اسرائيل’ لأسباب سياسية’.
مستوطنات غزة أصبحت بيوت أشباح ومستوطنو القطاع تحولت لديهم مغادرة المستوطنات والعودة إلى داخل حدود 48 أو ما وراء الخط الأخضر إلى نوع من الأمل.. ويشير استطلاع للرأي نشر أول يوليو الماضي إلى ان 68% من المستوطنين يوافقون على ترك المستوطنات والانتقال الى داخل الخط الأخضر و24% قالوا انهم سيلجأون للقضاء إذا ما بدأ ترحيلهم و6% فقط قالوا انهم سيقاومون الترحيل باستخدام كل الوسائل.
البروفيسور سيرجيو بارغولا الخبير في الشئون الديمجرافية اكد انه مع انتهاء هذا العام سيفصح عن بيانات رسمية ان الهجرة من وإلى ‘اسرائيل’ ستكون سلبية بمعنى ان الذين يتركون البلاد أكثر ممن يجيئون إليها.
وأوائل هذا العام نشر استطلاع للرأي أعرب فيه 20% ممن تم استطلاع رأيهم انهم يفكرون في مغادرة الكيان الصهيوني للاستقرار في دول أخرى وقبلها بستة أشهر كانت النسبة 14% فقط وفقاً لاستطلاع نشرته صحيفة هآرتس يوم 24 أغسطس 2001.
نسبة العشرين في المئة هذه تعني ان هناك نحو مليون يهودي تتعاظم لديهم فكرة النزوح عن فلسطين والتهيؤ لمغادرتها إلى الأبد.
االأهم من ذلك ان أوساطاً سياسية غربية تقدر عدد اليهود الذين هربوا إلى الخارج منذ بدء الانتفاضة في 28 سبتمبر 2000 وحتى ابريل 2002 بنحو مليون صهيوني !! وربما يتصور البعض ان المليون يهودي الذين تركوا فلسطين أشخاص لم يكونوا منتمين.. لكن الحقيقة غير ذلك، فمن بين المليون أبناء أشهر ساسة الكيان المجرم وحكامه, و هذا ما أكدته بداية فبراير 2002 صحيفة يديعوت أحرونوت الصهيونية حين نشرت تقريرا اعتبرته الاوساط اليهودية فضيحة, جاء فيه أن من بين المهاجرين الذين استقروا بالخارج ارييل ابن الوزير الحالي روني ميلو [الذي أصبح من مواطني نيويورك مثل شقيقه أوفير] وتالي ابنة وزير الحرب بنيامين اليعازر التي استقرت أيضاً في الولايات المتحدة، ويوفال ابن اسحاق رابين الذي استقر في واشنطن واوريت حفيدة مناحيم بيجين التي فعلت نفس الشيء وكذلك ميكال ابنة ايهود باراك التي وضعت مولودها في نيويورك حيث تقيم هناك مع زوجها، وايجال موشي ايرنز [ابن وزير الدفاع اليميني الاسبق] ويعيش في لوس انجلوس، ويوئيل حاييم هرتزوج الذي اختار جنيف مكاناً لاستقراره ومعه آلون حفيد ديفيد بن جوريون.
من جهتها أوضحت صحيفة جروزاليم بوست ان 35% من ‘الاسرائيليين’ يرغبون في العودة إلى البلدان التي هاجروا منها , كما أكدت الاوبزرفر ان 50% من يهود بريطانيا الذين هاجروا إلى ‘اسرائيل’ يرغبون في العودة والاستقرار في المجتمع البريطاني، وكذلك 25% من اليهود الكنديين.
وفي استطلاع رأي آخر أجرته الوكالة اليهودية أواخر مايو الماضي اتضح ان عدد اليهود العلمانيين الذين يهاجرون من فلسطين آخذة في الارتفاع إذ ان واحداً من كل اثنين اجاب بأنه يفكر في ترك البلاد والهجرة إلى الغرب.
وبعيداً عن الصحف فإن السفارة الفرنسية في تل أبيب اكدت في تقرير لها ان طلبات العودة لفرنسا والمساعي للحصول على الجنسية الفرنسية والتخلي عن الجنسية ‘الاسرائيلية’ قد ارتفعت إلى الضعف لتصل إلى 1200 طلب شهرياً وبمعدل 40 طلباً في اليوم، كما أكدت السفارة الالمانية في تل أبيب أوائل الشهر الجاري [أغسطس] الى انها تلقت حوالي 60 ألف طلب للهجرة والحصول على الجنسية الألمانية.
كل ذلك يعني ببساطة أن الحلم الصهيوني آخذ في التلاشي , و أن الانتفاضة ـ على عكس ما يصور الانهزاميون ـ تبدو بشائر نبتها الطيب فوق الثرى الفلسطيني , تبدو كذلك على الجهة الأخرى الطبخة التي كانت معدة حول مستقبل ‘اسرائيل’ ـ وربما حول مستقبل العالم بأكمله ـ و قد أفسدتها العمليات الاستشهادية. و من الطبيعي أن تنال العمليات الاستشهادية المباركة كل هذا الاستنكار الرسمي العالمي بعد أن قلبت هذه العمليات كل موازين القوى الى درجة جعلت اليهود داخل فلسطين وخارجها يحسون بقرب زوال دولتهم ‘ إسرائيل ‘ من خريطة المنطقة وبدأت تتردد في الأوساط اليهودية عبارة ‘وداعاً يا اسرائيل’.
فالانتفاضة الأخيرة ودرة تاجها الاستشهاديون حوّلت حياة الصهاينة الى جحيم.. سلبت منهم الأمل الشخصي والازدهار الاقتصادي والأماني في تحقيق تسوية بشروط صهيونية.. كذلك أوقفت عمليات هجرة اليهود في الحاضر وأثبتت ان ارتباط اليهود بما يزعمونه عن أرض ‘اسرائيل’ ليس إلا ارتباطا هشاً مصطنعاً لم تستطع الحركة الصهيونية تحويله الى ارتباط حقيقي.. وبدأ كثير من اليهود المقيمين في فلسطين السعي نحو الهجرة إلى دول مثل الولايات المتحدة وأوروبا الغربية.
لم تضعضع العمليات الاستشهادية كيان الدولة الصهيونية فقط بل انها فتحت طاقة أمل جديدة كان غيابها أكبر سلاح بيد اليهود .
فرغم ان هذه العمليات كلما اشتد أوارها كلما اشتد معه الجنون الصهيوني، قتلا وقصفا وتدميرا للبشر والحجر والحياة، إلا أن هذا الجنون إنما هو كجنون ثور سددت له ضربة خبير في مقتل ؛ فظل يضرب كل من حوله ؛ و هو يتلبط بدمائه قبل أن يخرج أنفاسه الأخيرة .. و ليست هذه هي رؤيتنا وحدنا , فالصهاينة ذاتهم يرون ذلك , بعد حملة الجدار الواقي الاخيرة وجه الشاعر والمفكر الصهيوني بن ميخائيل رسالة الى شارون يقول له فيها: ‘لا يأخذك الغرور.. واياك ان تتصور ولو للحظة واحدة انك بهذه الوسائل تقضي على جذوة المقاومة الفلسطينية، اذا كنت تظن ذلك فإنك تبرهن مرة اخرى على انك لست مغرورا فحسب، بل وغبي’.
يضيف بن ميخائيل في رسالته الحادة قائلا: ‘اخشى ما اخشاه انك مازلت تعتقد ان الفلسطينيين هم نفس الفلسطينيين الذين كانوا بعد حرب 67، انهم تحرروا منذ زمن من عقدة الرهبة من قوتنا وتفوقنا النوعي في مجال السلاح، انهم يملكون سلاحا لا نملكه وهو الاستعداد للتضحية بالنفس من اجل القيم والاهداف التي يؤمنون بها’.
و سبق ان توقع الجنرال ديجول ـ الرئيس الفرنسي الأسبق , و كان واحداً من أصدقاء اليهود ، ومع ذلك لم يخف مشاعره ومخاوفه في رسالة بعث بها إلى ديفيد بن جوريون ـ زوال الكيان الصهيوني حين قال: ‘ان المجتمع ‘الاسرائيلي’ عدواني ودموي، وبسبب هذه السياسة والاستراتيجية سوف يندثر بمرور الزمن’. و لأن للرجل خبرته كجنرال مظفر أثناء الحرب العالمية الثانية , و كرئيس امتاز بالحكمة ؛ فإنه لم يرى القمع الصهيوني إلا دليلا قويا متناسبا مع عظم الخطر المحدق بالدولة اللقيطة .
و في السياق عينه , يقول خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس اثناء ندوة اقيمت في طهران [نهاية ابريل 2001] ان شعبنا بهذه المقاومة يعيش مرحلة التحرير ويخطو بثقة نحو استعادة ارضه كاملة غير منقوصة والقضاء على الكيان الصهيوني.
ولأن لكل شيء ثمنه.. فهناك ثمن كبير وضخم يدفعه المقاومون.. قتل الأطفال والنساء والشيوخ.. هدم البيوت.. جرف المزروعات.. الحصار.. التجويع. لكن الأثر على الجانب الآخر أشد , فالحديث مع ‘الاسرائيليين’ باللغة التي يفهمونها جاء بنتائج جيدة، فبعد ان كانت الوفيات في المواجهات 15 فلسطينياً مقابل كل يهودي تغيرت النسبة لتصبح 4 فلسطينيين فقط مقابل اليهودي، وربما تستطيع المقاومة رد الأمور لطبيعتها وقتل يهودي مقابل كل فلسطيني.
يقول مشعل ‘قتلاهم وجرحاهم في ازدياد تجتاحهم حالة رعب حقيقية.. لم يعودوا يأمنون في مستوطناتهم ولا في أي مكان من أرض فلسطين’.
‘لقد ثارت الشكوك لديهم حول مستقبل كيانهم وعادت بهم بعد ثلاث وخمسين سنة من الاحتلال إلى المربع الأول. وهو الحديث عن وجود هذ ا الكيان وإمكانية استمراره واستقراره. مما يعزز بلغة الواقع ودلالاته امكانية القضاء على هذا الكيان الغاصب وهزيمته’.
كل هذه المعطيات تحمل على الاعتقاد بأن الدولة اللقيطة بسبيلها إلى الانهيار , و أن هذا الانهيار لن يكون بعيدا … و تدفعنا هذه الحقيقة إلى التساؤل : هل من حقنا ان نحلم بزوال الكيان الصهيوني ؟ من يصنع الحاضر هو الوحيد الذي يحق له ان يحلم بالمستقبل.. طفل الانتفاضة مهما كان اسهامه فيها، واولئك القابضون على جمر الحقيقة الذين يرفضون منطق اليأس والاستسلام للامر الواقع، والكتاب الذين لم يساوموا على قناعاتهم ولم يشاركوا في ترويج بضاعة فاسدة، والتلامذة الذين يرسلون من مصرفهم تبرعا للانتفاضة، والصامتون الذين يربون اولادهم على كراهية الكيان الصهيوني وضرورة اجتثاثه وتطهير ارضنا المباركة من دنسه.
كل من لا يسلم بهذا الواقع السيء ويرفضه من حقه ان يحلم.. وكل من استوعب دروس التاريخ وعلم ان الصليبيين قد تم اقتلاعهم والقذف بهم الى سلة مهملات التاريخ رغم انتصارات مرحلية صورت لمن يعيشون ذلك الزمن انهم سيدومون هنا.
هذه ارض للخيل العربية بعض صفاتها لا يمكن ان تحتفظ على ظهرها الا بصاحبها .. اما ذلك الاخر الغريب الغازي فحتما سيجد نفسه يوما تحت حافرها..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى