الأبرص – قصة رعب

( قصة رعب )
( الأبرص )
بقلم : عبدالعزيز الحشاش

يقول جيفارا : الطريق مظلم وحالك، فإن لم نحترق أنت وأنا فمن سينير الطريق إذا ؟
 
******
الكويت – 1994
للشتاء نشوة دافئة، تخلقها حركة الأجساد المكتظة في المخيمات المنتثرة على مد النظر في منطقة ميناء عبدالله البرية، حيث اعتاد الناس على نصب خيامهم هناك مع هبوب أولى نسمات نوفمبر. وما أن يحل علينا ديسمبر حتى يرائي لك بأنها منطقة كاملة بأهلها وأطفالها وبيوتها (خيامها) ومجتمعها. فالناس يبدؤون بالتعارف فيما بينهم، كل يسعى للتقرب من جاره، تارة لخلق جو من الثقة والأمانة في حال اتجهت عائلة ما جنوبا إلى المدينة فتترك خيامها ومتاعها أمانة عند جيرانها، وتارة أخرى لكشف هوية الجار عن قرب ومعرفة أدق التفاصيل عنه حتى لو فقد شيء في يوم من الأيام فيكون هو أول المشتبه بهم.
كم أعشق البر، الممتد إلى ما لا نهاية، رمله الناشف من برد الظهيرة، وزرع النوير المنتشر حول مخيمنا الكبير في كل مكان. كم أعشق النسمات الباردة وهي تجمد أطراف أنوفنا فنضطر للفها بالشماغ المربوط على رقبتنا. كم أعشق الشمس وهي معلقة في صدر السماء باردة تراقب لهونا من بعيد وترسل خيوط من نسمات دافئة لا نشعر بها إلا ونحن نهرول حول الخيام وندفع بعضنا لنقع متعثرين بحبال الخيام المثبتة بأوتاد دقت في أرض اختارها أهلنا لتكون مركزا لمخيمنا .
ولم يكن ليعكر استمتاعي بخلوتنا العائلية هذه في تلك البقعة البرية وفي ذاك الوقت من العام إلا إلحاح والدي على دعوة كل من يعز عليهم ولا يعز عليهم من الأهل والأصدقاء. وإذا ما ناقشت أمي أو اعترضت على أبي أجاباني بأنه يوم مفتوح للعائلة والمعارف ولا أجمل من الجمعة . أما أنا فكنت أكره أن ينتهك أحد حرمة جمعتنا أنا وأبي وأمي ونواف أخي الأصغر.
ووافقت على مضض مرغما لا مخيرا. ولم تتجاوز الساعة الثالثة عصرا، حتى وامتلأت ساحة مخيمنا بألوان من السيارات، وأنواع من ماركاتها، الجيمس .. الوانيت .. والتيوتا.
وامتلأ مخيمنا الكبير بأجساد بشرية بعضها أعرفها وبعضها أتظاهر بأني لا أعرفها، وبعضها أراه لأول مرة .. مثل ذاك الطفل الذي استوقفي، وأخذت أنظر له مشدوها وكأن شيء ما ثبت عيناي على جسده الممتلئ وطوله المتوسط .. وشعره الأبيض !
– آي ..
لكزتني أختي الكبرى، ونهرتني وهي تهمس :
– كفاك تحديقا .. قل الحمدلله والشكر
اختنقت في حلقي الكلمات، وأنا لازلت أنظر له، سألتها:
– لماذا شعره أبيض ؟
– هكذا الله خلقه .. قلت لك قل الحمدلله
– الحمدلله والشكر .. ولكنه طفل .. أتى مع من؟ من أمه؟
– وما أدراني ؟ ومن يأبه؟ هل رأيت كم أم هنا في المخيم .. إنه اليوم المفتوح .. هيا إلحق بي وساعدني في توزيع العصير على الزوار
ولحقت بها، وسرت على خطاها .. وأنا لم أزيح عيناي من عليه، سبحان الله كيف خلق هذا الصغير الأبرص بشعر أبيض، وحاجب أبيض .. وأهداب بيضاء !
 
******
صرخ علي ابن عمي :
– الغداء ..
وركضنا فوجا من اللاعبين بعد مباراة قصيرة في كرة القدم، ودخلنا الخيمة المخصصة للرجال والأولاد، جلسنا حول السفرة وبدأ التنافس على صواني العيش ومواعين المرق وأصناف الأكل المختلفة. مددت يدي لأنتف لحمة .. جاءت عيني في عينه، كان كل منا يجلس إلى قرب والده أو قريب له، إلا هو .. كان يجلس بيننا .. وحده .. صامتا !
جاءت عيني فيه عينه .. لمحني وأنا أنظر له .. ورمقني بنظرة !
لسعتني ضربة أبي على كفي، نهرني :
– إما أن تأخذ لحمتك وتنتهي وإما أن تكمل صحنك وتخرج حتى تترك مجال لغيرك ..
وأكملت غدائي .. وأنا استرق النظر إليه بين الحين والآخر .. أراقبه وهو لا يفعل شيء سوى .. الصمت !
 
******
ذابت الشمس وراء الأفق البعيد، وبعثرت على صفحة السماء ريشتها البرتقالية، فمزجت المغيب الأحمر بالليل البنفسجي .. وبزغت بضع نجمات هنا وهناك .. معلنة عن بداية الليل.
أشعل الرجال في حفرة كبيرة نارا امتد لهبها ليفوق طول أكثرهم طولا، وأخذنا نرمي في حضنها بعض العصي والخشب من مخلفات المخيمات القديمة التي وجدناها حول مخيمنا . وما أن حل الليل ولف السماء بعباءته السوداء حتى زادت البرودة، والتففنا أكثر حول النار. التصقت في أبي ونحن نسمع النسوة يرددن بعض الأغاني، ويقرعن على الطبول في خيمتهن، ابتسمت له فبادلني الإبتسامة. التفت لأرى كل جالس في حضن والده، أو متكئ إلى كتفه في جلسة حنونة عائلية، عداه هو .. وقف بيننا يراقب النار .. فتعكس نورها لونا شاحبا على ملامحه الصامتة، ورسم لون شعره الأبيض صورة غريبة بين وجوه الحضور. لم أتمالك فضولي، التفت لأبي .. سألته :
– أبي .. ابن من هذا ؟
ابتسم أبي :
– من ؟
قلت وأنا أشير في اتجاهه :
– هذا ..!
التفت إليه .. فوجدته قد اختفى .. صدمت !
استغرب أبي :
– من تقصد ؟ أي واحد منهم ؟
تلفت حولي أبحث عنه، بين الخيم .. في الامتداد البعيد .. لا أحد .. وفجأة .. وجدته يسير نحو الحمام الخشبي في زاوية المخيم البعيدة . التفت لأبي مرة أخرى وأنا أبتسم :
– لا بأس .. انسى الموضوع
******
صمت ناعم خلفه صوت ماكينة الكهرباء التي أطفأها أبي في المخيم، وأخذ يمر على الخيام هو وبعض الرجال ليتأكدوا أن كل في فراشه من أهلنا ومعارفنا الذين آثروا على النوم معنا في مخيمنا، بينما آثر البعض الآخر على الرجوع لبيوتهم والتمتع بنوم هانئ بعيدا عن برد ليل البر المتجمد أو أصوات الكلاب الضالة.
انغمس جسدي في الـ sleep bag  مع بقية أبناء عمومتي وأبناء أخوالي داخل خيمتنا الداثرة. وحالنا كحال الجميع استسلمنا لظلام الخيمة وصمت الليل البارد. ألقى أحدهم نكتة فضحكنا، علق الآخر على موقف طريف حدث أثناء النهار فهمهمنا بضحكات قليلة، صرخ أبي فينا : نامو .. فنمنا.
ظلام .. لا شيء سوى الظلام .. عندما أغمض عيني .. أو عندما أفتحهما .. كله سواء. تقلبت داخل الـ  sleep bag الدافيء ولففت رقبتي بالغترة وتكورت في مكاني أنشد دفئا آكثر.
غفت عيني، طالت الغفوة .. نمت ..
وفجأة ..!
صحوت .. على صوت حركة عند الخيمة، بالتحديد قرب رأسي حيث أنام .. فتحت عيني .. ظلام .. لا شيء سوى الظلام، وأنفاس النائمون من حولي، وبرد قارص.
عدت للنوم .. لم أستطع .. الحركة تزداد .. حركة غريبة .. صوت أرجل تهرول حول الخيمة .. ولهاث .. وأيد تحفر بالقرب مني حيث أنام قريبا من سور الخيمة ..
رفعت رأسي نص رفعة، وأخذت أنظر حولي .. ولكن لا فائدة .. إنه الظلام يمنعني من تمييز ما حولي، رفعت الغطاء .. همست :
– أبي .. أبي .. !
رفع علي ابن عمي رأسه ، سألني:
– جراح .. ما بك ؟
– أسمع صوت أشخاص يتحركون خارج الخيمة
– لا تخف إنهم كلاب الليل يحومون حول المخيم فقط لا غير .. لا ضير منهم
 
ورغم أن كلامه لم يقنعني، إلا أنني كنت مجبرا على الاستسلام للنوم، ونمت .. متناسيا وقع الخطوات الذي أخذ بالازدياد حول خيمتنا.
وفجأة .. ألم أعمى عيني، بياض كبياض الشمس يؤلمني، فتحت عيني .. إنها إضاءة أقوى من أن أتحمل النظر فيها، أزحت عيني الناعستين عنها، حاولت أن أدقق من خلف ذاك الكشاف اليدوي الذي وضع أمام وجهي، قلت :
– من ؟
لم يجبني احد .. أعدت السؤال :
– من؟ ماذا تريد ؟
انعكس اتجاه الضوء، ليكشف لي وجهه الأبرص، وشعره الأبيض .. واقفا أمامي، رفعت رأسي:
– ما بك؟ هل تريد شيء؟
صمت ، أعدت السؤال:
– هل تريد أن تذهب للحمام؟
استمر في صمته، شددت على نبرة صوتي وأنا أنهره:
– أطفئ هذا الكشاف ستوقظ الجميع بنوره
أنطفأ الضوء، نهضت .. قلت :
– تعال معي سآخذك للحمام
فتحت حبال الباب .. خرجت .. وما أن رفعت رأسي .. حتى وجدته يقف أمامي .. وحوله كلاب سوداء كثيرة .. يربت عليها ويمسح على رأسها . أحسست بقلبي سيتوقف .. متى خرج؟ ومن أين خرج؟ وماذا يفعل مع هذه الكلاب؟ تلفت حولي لعل أحد شهد معي ما شهدته .. فلا يتهمني أحد بالجنون .. وأخذ ينظر لي صامتا وهو يمسح على الكلب .. وأنا أتراجع خطوة للوراء .. أدخلت رأسي وطللت في الداخل .. ناديت :
– علي .. علي .. !
أعدت رأسي لخارج الخيمة .. نظرت .. فلم أجد أحدا .. اختفى الولد الأبرص مع الكلاب السوداء .. ولم أرى سوى ساحة مخيمنا ينيرها بدر في صدر الليل .. وليل مظلم .. ونجمات تراصت على عباءة السماء.
تقدمت خطوتان .. سرت لوسط ساحة المخيم وأنا أرتجف، وأكاد أسمع دقات قلبي من سرعة خفقانه، أتلفت كالمجنون .. ترتجف أوصالي .. وسرت بهدوء وخوف حول المخيم .. أبحث لأثر .. للولد .. وللكلاب .. فلم أجد شيئا . وعدت للخيمة حائرا مرعوبا.
* * * *
أخذت الشمس موقعها في سماء ملبدة بالغيوم، وأرسلت بحرارتها الشتوية على خيامنا المتناثرة في بر ميناء عبدالله، وصحونا من نومنا على حر لم نعتده. فتحت عيني .. رفعت عني الغطاء .. نظرت حولي .. الجميع نهضوا وخرجوا، تناهى إلى مسمعي أصواتهم وهم يلعبون الكرة في الخارج .. رفعت رأسي .. مشطت المكان بنظري .. بحثت .. لا يوجد أحد .
خرجت .. وكان الجميع منشغلا في ما يمارسه، النسوة يعددن الغداء، الأطفال يلعبون في كل جانب .. والرجال يمارسون هوايتهم في التحدي من خلال كرة القدم .
ضرب أحدهم الكرة ناحيتي، سقطت في قربي .. التفت إلي الجميع وقد انتبهوا لوجودي .. أتى أبي مهرولا لاهثا وراء الكرة .. اقترب مني :
– صباح النور .. قطعت النوم ..!
ابتسمت .. رديت متسائلا :
– أبي .. هل رأيت ولد أبرص بشعر أبيض .. هو ابن أحد معارفكم أنا متأكد من ذلك !
هز أبي رأسه لثوان محاولا التذكر .. همهم ثم قال واثقا :
– لا .. لا أحد من أبناء معارفنا أو أصدقائنا أبرص أو شعره أبيض .. لماذا ؟
صمت ثم أجبته .. :
– لا شيء مجرد سؤال
 
وحملت معي سر الليلة الماضي
* * * *
مر الشتاء سريعا، رغم لياليه الباردة، وانقضت أيام نزهتنا الطويلة بسرعة. وضبنا الأغراض في سياراتنا، وعدنا أدراجنا إلى بيتنا .. ومن خلف النافذة رحت أراقب الغروب الأصفر، وخيال أناس من بعيد يفكون خيامهم لينضموا لنا في العودة إلى المدينة وتوديع البر.
قاطع خيالي الشارد صوت أختي تسأل أمي :
– كان هناك طفل بين الأطفال عندما زارونا معارفنا وأصدقائنا .. شعره أبيض ولونه أبرص .. أتساءل يا ترى ابن من ؟
أغمضت عيني .. قلت بيني وبين نفسي متنهدا بارتياح :
– الحمدلله .. لم أكن أنا وحدي من رآه
أجابت أمي غير مبالية :
– أي طفل أبرص؟ أتقصدين ابن شيخة جارتنا الذي توفي قبل عام ؟
 
– تمت –

Exit mobile version