كان أبي فقيرا، كمعظم الآباء العرب في بداية حياتهم الزوجية، ومع كل طفل يرزقونه يزدادون هلعا من غول الفقر، فيندفعون نحو طلب الرزق حتى لو اضطروا وهم يركبون سياراتهم طلبا للرزق أن يضغطوا على دواسةْ الوقود إلى نهايتها؛ لتصل إلى أقصى سرعة في سيارة تسير في طريق جبلي ذي منعطفات حادة، وهم يعلمون علم اليقين أن هذه السيارة، لا يمكن التحكم في إيقافها، حيث إن فراملها معطلة فكأنهم يفضلون هلاكا محققا، ظنا منهم أنه أفضل من الموت فقرا، رغم أن الفقر لا يسبب الموت، خاصة إذ عرفنا أن تعريف الفقر عندهم هو العيش تحت ظل دخل محدود، حتى إن أصحاب الدخل المتوسط يُعرفون أنفسهم بأنهم فقراء ويستحقون الصدقة، والكل يريد أن يكون غنيا، ومهما بذل من تضحيات، المهم أن يكون غنيا.
من حسن الحظ، أنني كنت الابن البكر لأبي وعشت مرحلة فقره الذهبية، ومع ذلك فقد كان كثير اللعب معي، ويتنزه بنا على الكورنيش و في الحديقة وكان يجلس مع أمي يشربان الشاي والقهوة ويشويان اللحم لنا، ويستمتعان بإطعامنا، ولكنه كان كثير التذمر من فقره رغم أنني كنت لا أشعر به ولا أعرفه، أكثر ما كان يزعجه هو سداد إيجار البيت، ويرفع ضغطه فواتير الكهرباء والماء والهاتف، وتحاول أمي الصالحة التهوين عليه، ولكن دون جدوى.
دخل الأسهم كحال الكثير من الشعب الخليجي يريد غنى، فأصبحنا أغنياء إلا إن أبي لم يعد يلعب معي، وقد تمر أيام لا نراه، لم يعد يصطحبنا للكورنيش ولا يذهب بنا إلى الحدائق، أصبح مزاجه حادا مرتبطا بمؤشر الأسهم، إن صعد المؤشر أصبح مزاجه هادئا وأعطانا ما نريد من المال فقط، إلا إنه لم يكن لديه وقت أو جهد ليعطينا حبا، وإن انخفض مؤشر الأسهم أصبح يزبد ويرعد وتنتابه حالة غضب هستيرية، تحاول فيها أمي أن تبعدنا عنه؛ لأنه يكون أشبه بمجنون يهددنا بالطرد أو بهجراننا، ويتفوه بكلام غير معقول، لا أنسى تلك الليلة التي حاولت أمي فيها نصحه بالاهتمام بصحته وبدينه وبأولاده فما كان منه إلا أنْ طردها من المنزل، ظنناها لحظة غضب ستزول، ولكنه أصر وظل واقفا يدور خلفها، وهي تحاول الاختباء عن ناظره من غرفة إلى غرفة، وخوفا من أن تزداد الأمور سوءا خرجت إلى الشارع، فهي يتيمة الأم والأب، حتى التقطها من الشارع أقرب أخ، وخلا بيتنا ممن يرعانا، أب مشغول بالغنى، وأم مطرودة ولا ندري هل ستطرد إلى الأبد أم ماذا سيكون مصيرنا؟ حاول أبي التخفيف عنا ووزع علينا المال لكي يرضينا، ولكنا أرجعنا له ماله، وقلنا له نريد أمنا، إلا إنه لم يأبه لدموعنا، ولكن الله سلم فبعد أيام دخلت علينا أمنا بمفرده فلقد نصحها أخوها العاقل، فرجعت وفاجأتنا بقولها: أعلم أن أباكم سيزداد سوءا، فهل أنتم مستعدون للتعاون كي نواجه هذا الوضع، ونجعل ذلك تحديا لنا لنكون عبادا لله صالحين متفوقين في دراستنا بارين بوالدينا.
: ماما كيف عدت؟
– ربما دعوة والديً؟.
– ربما صدقة من أبيكم.
:أبي كنا فقراء ولكنن سعداء، وأصبحنا أغنياء إلا أنن تعساء.
الجميلة
تظلمها حين تصفها بالجميلة، فهذه كلمة لا تفي بحقها، فحين تمس عيناك محاسنها لا يسعك إلا أن تذكر الله مخافة أن تصيبها عيناك بسوء دون قصد منك، فأنت في قرارة نفسك تؤمن أن جمالا بهذا القدر الرفيع حرام، ثم حرام أن يُمس بسوء، تريد وصفا لجمالها، فتخونك لغتك العربية الركيكة التي طُعنت وشُوهت فتمثلت فيك عربا، أو قل أشباه عرب لا يحسنون فن التعبير بلغتهم ولا بغير لغتهم، وتذكر من قراءتك العربية من سالف الأزمان، أن هناك أدباء قدامى تفننوا في وصف هذا الجمال، فتتمنى أن لو حضر أحدهم فيرى على الهواء مباشرة هذا الجمال؛ ليتمكن من تسجيله؛ لأنه من الصعب جدا نقل الصورة له.
لو كان هذا من الممكن لأبدع أديبنا، ولأنتج أدبا ينافس به البشر، لأعطاك وصفا لهذا الجمال حال إقباله وإدباره والتفاتته وسكونه وحركته. ولعمري وكأني به سيحتار من أين يبدأ؟ هل سيبدأ بالطول الفارع الرشيق؟ أم بالشعر الأسود الطويل الفتان؟ أم بجمال الوجه.
لو كانت لك الخيرة من أمرك لما فارقت عيناك ذلك الوجه. ولا تلمني فهي لوحة بديعة لم ترسمها يد فنان، بل أبدعها الخالق سبحانه وتعالى.
تُمعن النظر وتطيله فتكتشف عيبا صارخا، فقد كنت تظن لأول وهلة أنها كاملة بكل تفاصيلها، وترجع إلى حقيقة البشر، لا كمال.
كان بها كبر يهد ثقله الجبال الرواسي، كبر يجعلها ثقيلة على النفس، متململة هي ممن حولها، وكأني بها لو أتيح لها، لهبت قافزة، وصرخت في وجوه الحضور: ما أحقركم؟!. ولربما تساءلت: ما الذي أحضرني إلى هنا؟!، مكاني في موقع آخر وليس هنا، و صدق الله إذ يقول: "يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ".
نعم هي تفوق الحضور جمالا، ولكنها أقلهم في كل أمر غيره، لذا نبذها الآخرون، والمشكلة أنها تظن أن الناس غيورون من جمالها! ولا تشك لحظة واحدة أنهم نفروا كبرها.
فيا جميلتي: لم لا تجعلين جمالك مفتاحا للقلوب؟!، بدل أن تجعليه مسمارا في نعش علاقاتك مع الآخرين؟؟!!.
تابعوا جديد شبكة أبونواف على فيس بوك وتويتر