منوعات

للأثلة ذكرى – قصة تجنن

 للأثلة ذكرى – قصة تجنن

تأبّط الليلُ فلول النهار الأخيرة ،و نثر جدائلاً فاحمة السواد على القرية البائسة ذات البوابة المتشحة بالتعب و بقايا دموع المهزومين

صرير الرياح المميت يشق سكون المدينة،تئن النوافذ و كأنها تتلوا لحناً جنائزياً لتأبينٍ جديد. يغفو سعيد وهو يرقب أغصان شجرة الآبنوس التي شكلت بظلها المنعكس على جدار غرفته الرمادية لوحة فارهة الجمال، شهية الملامح. حفيف الأوراق يأتيه من باحة المنزل المظلم فقد خلا إلا منه فيدعوه للمزيد من النشيج و الألم فالموت سرق الجميع، افتّر فاه عن ابتسامة بلهاء فتحسس نابه المخلوع منذ زمن أغبر، أتته الذكريات زائرة، تذكر اليوم الذي خلعت فيه جدته سِنهُ البائس حينما عجز عن المشي، كان يعدُ نفسه رجلا لكنه بكى بكاء مرا في ذلك اليوم و في عينيه نظرات الرجاء، كان آنذاك في الرابعة عشر من عمره ..كم يمضي بنا الوقت سريعا فهو يحس دائما بأن وريقات عمره قد تساقطت كزرعٍ هشيم.

_جدتي أرجوكِ.. أستحلفكِ بربكِ ألاّ تخلعي سني.
_ يا بني هذا هو الحل الوحيد لشفائك من المعضلة التي ألمت بك فقد أشار علينا الشيخ صالح حكيم القرية بأن نخلع نابك الأيمن و ندفنه في ليلة يكون فيها القمر بدراً.
_ جدتي إلى متى و أنتِ تؤمنين بسذاجة المشعوذ الخرِف صالح؟ جدتي أعدك بأن أحاول السير على قدميّ من جديد و سأستطيع كما كُنت سابقا.
_ هذا عقاب لك من الله..تتقوّل على الشيخ صالح و ترميه بكلامك العابث..قلُ لي أيها الأحمق كيف ستمشي من جديد و أنت تتقول على أولياء الله؟

استسلم سعيد ليديها فخلعُ سِنه أسهل من تغيير عقلية جدته وتفكيرها، انقضت عليه الجدة و ربطت خيطا غليظا حول نابه و كانت تقوم بسحبه يُمنة و يسرة و كأنه شاة اقتيدت لساحة الذبح، و بعد ساعات من المعاناة و الألم شعر بروحه تنخلع و سالت الدماء في فمه ، و لم يُفق إلا بعد أن أحس بأنه يغرق في يمٍ عظيم فإذا بها جدته تسكب عليه ماءً من القربة ذات الجلد المهتريء كمدينته.

*****
سعيد و جدتُه يقصدان البحر و الدم لازال يسيل و الألم في ازدياد، يجلس محتضنا أ وجاعه، و الحمار الأعرج يجر العربة المتهالكة و بعض سذاجة جدته.

_ جدتي إلى أين المسير؟
_إلى الأثلة القريبة من البحر.
_ هل سندفن نابي هناك؟
_ نعم فهذا ما أمرني به الشيخ صالح.
(ابتسم و رثى لحال الأثلة)
_ و ماذا سأصنع أنا.
_ ستدفن الناب بيديك و أنت محدق النظر في القمر دون التفات لشيء آخر حتى ننتهي من الدفن.
– يا الله هل ستشركون القمر ؟
– لا تجادل.

تمتم سعيد بكلمات تجاهلتها الجدة و مضيا في طريقيهما.

*****
القمر يكتسح السماء برداء مطرز بخيوط حرير فضية، كان ملكٌ متوجا على صدر البحر، و الأمواج تحاكي الليل بأروع الأساطير و الحكايات، و الأثلة تتمايل بنشوة غريبة الملامح.
تبدأُ مراسم الدفن فيتسرب الخوف إلى أوصال سعيد، يحس و كأنه طفل يصارع جبروت المساء، تخرج الجدة نابه المعقود في طرف وشاحها الممزق و يجلسان بالقرب من الأثلة.

_ هيا سأقوم بالحفر و ابدأ أنت في الدفن.
– هذا حالي اعتدت على الدفن فقط
حتى اسألي جراحي (يتمتم بصوت لا يكاد يسمعه سواه)
.
– ماذا تقول؟ماذا ألّم بك أيها الجبان؟
– _ لا شيء يا جدتي..فلنبدأ

لم يكن سعيد يؤمن بخرافات الشيخ صالح و لكن الصدفة أرادت أن تصيب معه هذه المرة ، أوربما بإرادته فقد وقف على قدميه ثانية و احتفلت به جدته بكل ما أوتيت من حنان، و أخذت تشدو بأجمل الأهازيج و تطلق الزغاريد و أصناف الدعاء للشيخ صالح حتى تعاطفت مع صرخاتها أركان المنزل بمزيد من النور.

*****

طرقات عنيفة على الباب _ أشدّ من أنينه حينما يفتح _
قطعت السكون و أشاحت بوجه الذكرى فعاد معها سعيد إلى الواقع المر من جديد، اتجه صوب الباب و فتحه فوجد هيفاء بعينين زائغتين وجديلة كأنها الليل، نظر إليها سعيد باستغراب فتدافعت الكلمات من ثغرها المشرب بالسمرة

_ هل أجد لديك القليل من (المُرّة) يا سعيد؟
_كل أنواع الُمر لدي ( مبتسماً )
لكن مالخطب ياهيفاء؟

_ الجذام اللعين يمزق أطراف أمي و يأكلها بافتراس و لم يُبقِ أحدا في القرية.

أحس بالغثيان و برغبة جامحة في التقيؤ، تذكر كيف سرق منه الجذام جدته التي احتضنته بعد رحيل أمه رغم فقرها و تعبها، و دون انتظار هرع إلى الركن الذي يسميه بالمطبخ و جال بين العلب وهو يطرد الفئران الجائعة حتى وجد القليل من (المُرّة).

_ خذي يا هيفاء هذا ما وجدته و آمل أن يساعد أمكِ على الشفاء.
_ سأدهن جسدها بماء (المُرّة) فلربما يتعقم.
_ آمل أن تُكتب لها العافية.
_ شكرا سعيد.. إلى اللقاء
_ إلى اللقاء (ملوّحا بألم).

وكالعادة مع الجذام لم تمض سوى أيام قليلة
حتى ارتفعت أصوات البكاء معلنة رحيل والدة هيفاء فالتف المكان بحزن قاتل ينخر الكبد و يستنزف بقايا الأمل في العيش، لم يَبق أحدٌ في القرية هاجر من هاجر فرارا بنفسه و تآكلت أجساد من بقي حتى تمزقت و فارقت الحياة.

*****

نهار جديد حارق، استفاق فيه سعيد على لسعات الشمس، توجه للبئر عازما على جذب بعض الماء و إذا به يصعق بمنظر يديه، بدأ الجذام يغزو جسده الضعيف و هو في ذهول و يأس، و لكنه أدرك أن الموت يدق أجراس النهاية ، ربما كان فرحٌ فسيلتقي و جدته التي مضى زمن على فراقها و دون خوف يتمتم هذه المرة _ الموت وسيلة لقاء لا فراق على عادته _ .
.

مضت أيام طويلة لم يذق فيها سعيد طعما للنوم و الراحة و جسده يتمزق أكثر و أكثر. فحينما عجز عن المشي كانت جدته بقربه و لكن إن مات الآن فسيموت وحيدا و سيكون الوليمة الأخيرة للفئران.

خرج من المنزل يجُر خطى متعبة..ثقيلة الوقع على الأرض الجدباء و سار باتجاه البحر، كان القمر بدرا و الأثلة شامخة كما عهدها ، ولج البحر و أغمض عيناه فأطلق البحر نشيجا و ضم أشلاؤه ، سار و سار و سار حتى تلاشى و أصبح شيئا من العدم.
.
.
.
تأبّط الليلُ فلول النهار الأخيرة ،و نثر جدائلاً فاحمة السواد على شمس القرية العارية ذات البوابة المتشحة بالتعب و بقايا دموع المهزومين
لكن هذه المرة دون سعيد

غــــــــــريبة الروح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى