بعد نهاية الحرب العالمية الثانية , بدأ الأب الإيطالي جيسبي سابوتو (Giuseppe Saputo) يبحث عن مكان أفضل للعيش له و لعائلة المكونة من ثمانية أطفال بجانب زوجته ماريا . كان جيسبي يسكن في قرية صغيرة تدعى Montelepre بالقرب من مدينة باليرمو الإيطالية . و كان ماهراً في صناعة الجبن . بدأت أنظار هذا الأب تتجه إلى أمريكا العيش في أمريكا الشمالية . و بعد مقارنة بسيطة اتخذ القرار بالهجرة إلى كندا زعماً منه بأنها أفضل حالاً من أمريكاً و أكثر فرصاً للعمل و أنسب له و لعائلته .
و في عام 1950 , ركب جيسبي و ابنه الأكبر فرانك السفينة مع بعض المهاجرين الإيطاليين , قاطعاً المحيط الأطلنطي , و متوجهاً إلى مدينة مونتريال في المقاطعة الفرنسية كيبيك من كندا , و التي تسكنها بعض الجالية الإيطالية . اشتغل جيسبي و ابنه كعاملين و انشغلا في جمع المال القليل تحضيراً لقدوم بقية العائلة في عام 1952 . و ما أن وصلت هذه العائلة الكبيرة , إلا و اضطروا جميعاً للعمل بأي مهنة ليجمعوا منها ما يضعوه على طاولة الطعام في نهاية يومهم .
مرت سنتين منذ وصول العائلة المهاجرة , و ظروف الحياة و العمل في مونتريال لم تكن بأسهل من حياتهم في أريافهم الإيطالية . كما أن جيسبي كان قد تقدم به العمر و ساءت عليه الظروف . فبدلاً من كونه أستاذاً في صناعة الجين , أصبح عاملاً يواجه قرس الشتاء الطويل و الظروف المناخية الصعبة في كندا .
هنا خرج الابن الايجابي لينو (Lino) -الابن الرابع- و قام بجمع بعض المال من عمله ليحفظ به ماء وجه أبيه , و كان عمره 19 عاماً فقط . و في سبتمبر من عام 1954 , قام لينو باستئجار محل صغير في وسط مدينة مونتريال بمساحة (3×3.6 متر) دون أن يخبر والده . ثم قام بشراء بعض الأدوات المستخدمة في صناعة الجبن و دراجة من ماله الذي ادخره و الذي كان يبلغ 500 دولار فقط .
أبلغ الابن أباه عن المحل الذي استأجره و الإدوات التي اشتراها , فغضب الأب عليه غضباً كبيراً على تصرفه الأهوج . ثم بعد نقاش و اقناع , وافق الأب على خوض التجربة . بدأ الأب و زوجته بصناعة جبن الموزاريلا يدوياً و كان ينتج يومياً 10 كيلوجرامات . و كان الابن لينو يقوم بتوزيعها على سكان الحي الإيطالي الذي يسكنونه بدراجته . كان الجبن لذيذاً و ذو جودة عالية جداً , و أحبه جميع سكان الحي و أصبح الطلب عليه كبيراً , فهو بجانب جودته يذكرهم بمدنهم الإيطالية التي قدموا منها .
و بعد 3 أشهر فقط , استطاع لينو و والده أن يجمعوا مبلغاً لشراء شاحنة صغيرة للتوزيع و توصيل الطلبات . ثم ازداد الطلب و توسع الانتاج تدريجياً حتى اضطروا للانتقال إلى مكان أكبر و شراء بعض الماكينات لتصنيع كميات أكبر من الجبن , بعد 3 سنوات فقط من بداية تجارتهم . و كان جيسبي يدفع كل شيء نقداً , لأنه كان يخشى من الاستديان أو الشراكة مع أحد , خوفاً من فقد السيطرة . و كان اسم المحل Saputo على مسمى عائلتهم .
في نهاية الخمسينات الميلادية , انتشرت البيتزا عالمياً ولم تعد مقصورة على الإيطاليين . بل أصبحت أكلة محببة للكثير من شعوب العالم و انتشرت بشكل كبير في أوروبا و أمريكا الشمالية . مما زاد الطلب على جبن الموزاريلا لكونه أحد المكونات الرئيسية في البيتزا . هذا التغيّر ساعد جيسبي و لينو على التوسع و الانتشار أكثر , و لم يقتصر طلب جبنة الموزاريلا مقصوراً على الحي الإيطالي في مونتريال فقط . فبدأ لينو و والده بزيادة الانتاج تدريجياً خلال الستينيات الميلادية , و توزيع جبن الموزاريلا في المدن الأخرى من مقاطعة كيبيك و كذلك في ولاية أونتاريو .
حان لأستاذ الجبن أن يترجل , بعد 15 عاماً قضاها في صناعة جبن الموزاريلا اللذيذ , و ترك لابنه لينو وصيتان: أن يحافظ على جودة منتجه , و أن لا يتوسع إلا من ماله الذي جمعه من مبيعاته و ليس بالاستديان أو الشراكة مع أحد حتى لا يخسر قوة التحكم في شركته . و انتقلت إدارة الشركة بكل سلاسة للينو , لأنه صاحب الفكرة و منفذها مع والده .
لينو ابن الثالثة و الأربعين كان داهية من الدواهي في عالم التجارة و صاحب رؤية ثاقبة اكتسبها من ممارسة الحياة العملية . وضع لينو خطة التوسع في مرحلة السبيعنات بشراء مصانع الجبن في منطقته و الانتقال من شركة تصنيع جبن إلى شركة تصنيع الألبان و مشتقاتها . ثم ساعده أخيه الأصغر جون لينشأ شركة توزيع محلية لتقوم يتوزيع منتجات شركة Saputo . و في خلال سنوات قليلة , تزيد Saputo إنتاجها من جبن المزاريلا لتصبح المسؤولة عن 1/3 الإنتاج المحلي على مستوى الدولة , محافظة بجانب ذلك على جودة إنتاجها . يقول لينو: “في كل يوم , أقوم بالنزول إلى المصنع و أتذوق الجبن . فإن لم يعجبني طعمه , طلبت من الموظفين أن يصنعوا غيره” .
و في الثمانينات , قام لينو بالتوسع بشركته جغرافياُ بادئاً من مقاطعات كندا المجاورة , ثم دخولاً على أمريكا . ثم قام بحركة أدهى في التوسع , فبدلأ من أن يقوم بشراء الحليب من الشركات الموردة , قام بشراء تلك شركات ثم مزارع الألبان التي تبيع عليها . ليضمن بذلك سلسلة متكاملة مؤمّنة بدءأً من البقرة و نهاية بكيس جبنة الموزاريلا المغلف موضوعاً على رفوف السوبرماركت . كما أن انتشاره الجغرافي بين مقاطعات كندا و أمريكا يضمن له تقليل نسبة أثر المخاطر عليه , ممتثلاً بالمثل المشهور: “لا تضع كل بيضك في سلة واحدة” .
في بداية التسعينات الميلادية , قام لينو بإدخل شركة Saputo في سوق الإكتتابات و الأسهم , محافظاً على حصة العائلة من الشركة بنسبة 80% . و استمر على سياسته التوسعية بشراء مزارع و مصانع الحليب و مشتقاتها , و كان يصنّع ما نسبته 76% من مجموع إنتاجه في مصانع كندا و 15% في مصانعه بأمريكا و 9% من مصانعه الأخرى حول العالم . و أصبح 40% من جبن الموزاريلا الموجود في الأسواق الكندية من إنتاج شركة Saputo حتى لُقّب لينو بـ “ملك الموزاريلا” .
في عام 1999 , قام لينو بتنويع تجارة شركته و قام بشراء شركة مخبوزات مشهورة , تبيع الكيك و الشربة و الفطائر الجاهزة و الكعك , مستغلاً بذلك قوة شركة التوزيع التي أنشأها مع أخيه جون فيما سبق و استغلالها الاستغلال الأمثل . و حتى تبقى رديفاً احتياطياً بجانب شركات الألبان و الأجبان .
و في عام 2001 , أصبحت Saputo الشركة الأولى للألبان و الأجبان في كندا , و خامس أكبر شركة للألبان و مشتقاتها في أمريكا الشمالية . و في عام 2003 , قام لينو بالتوسع خارج أمريكا الشمالية بالإستحواذ على ثالث أكبر شركة ألبان و مشتقاتها في الأرجنتين .
و في عام 2004 , حان لملك الموزاريلا أن يترجل هو الآخر عندما بلغ نهاية الستين من عمره , و بعد أن قضى 35 سنة رئيساً لهذه الشركة المغامرة الكبيرة . لقد كان عصره عصراً ذهبياً لشركة Saputo . فقد بلغت مبيعات الشركة لهذا العام فقط 3.57 مليار دولار , في صعود متواصل عن الأعوام السابقة الأخرى . و كان نصيب عائلة Saputo ما نسبته 58% من ملكية الشركة . و بلغت ثروة لينو الشخصية أكثر من 2.5 مليار دولار بعد أن بدأها بـ 500 دولار قبل 50 عاماً .