قصة قصيرة : إنه الليل يأتي

( قصة قصيرة )
( إنه الليل يأتي )
بقلم: عبدالعزيز الحشاش
 
إنه الليل يأتي ..مثقلا ببرد ديسمبر، الذي تنشر أمطاره النائمة فوق أسطح البيوت الطينية والحوائط المتشققة عبقا التصق في ذاكرتي ..فكلما أتى الليل ..تذكرت الحادثة .. وتذكرت المطر ينهمر سريعا .. ورائحة الحوائط العتيقة تنتشر في كل مكان .. فأتذكر تلك الليلة أكثر .. ولا أنام…
* * *
كلما أتى الليل تنام العيون، وتبقى عيناي ساهرتان .. تنتظران .. تترقبان ..أسمع خطواته تتخبط في بقع الطين المتناثرة في طريق الحي الوعر ..وأنا أنتظر .. وأترقب .. وعيناي ساهرتان .. نام الجميع .. وأنا في انتظاره مثل كل مساء. أشعر به يتمايل في دربه .. فيكاد يطرق أبواب بيوت الجيران .. وأنا أنتظره .. أترقبه .. حتى تصل يداه لباب البيت … فيقحم مفتاحه في قفل الباب .. ويدخل .. وأنا أترقبه .. ولا أنام
* * *
حين توفي أبي لم تكن أمي ذات حيلة، وأرهقها التعب والتفكير في مصيرنا نحن الخمسة، وسألتني :
– يا فهد .. أنت أكبر إخوانك.. لا حيلة لنا .. رهن أبوك البيت لمبارك .. و إن لم نسايره في شروطه .. جلسنا في الشارع
 وعلى مضض وافقت، وبحسرة وألم تحملت وطأة قدمه الغريبة في حوش بيتنا القديم.
* * *
للستينيات ذكريات متشابكة، الثورة .. العروبة .. عبدالناصر.. وأنا تشابكت في رأسي ثورة من نوع آخر، سئمت دخوله علينا في كل ليلة وهو يترنح ورائحة المشروب الكريه تنتهك براءة أخوتي الأطفال، وطهارة أمي التي لا تنفك تدعي فوق سجادتها في كل ليلة ومع هطول المطر .. أن يهديه الله .. ولكنه يستمر في اقتحام البيت ليلا .. مترنحا .. أنتظره.. أترقبه .. مثل كل ليلة.. ولا أنام
* * *
أغلق الباب خلفه، وقف وسط الحوش ..(الصلاة خير من النوم) ..آخر نداء المؤذن وهو ينادي لصلاة الفجر، وهو .. يترنح وسط الحوش، تخرج أمي .. وبحرقة قلب صابر مؤمن تصرخ فيه ضجرة من أفعاله :
 – حرام عليك .. الفريج  يشتكي منك ومن أفعالك .. الناس تصلي الفجر وأنت ترجع آخر الليل سكران ؟؟
عيناي ساهرتان، تحدقان في سواد السقف وفراغ الغرفة، كنت أنتظر حركة
منه .. وفعلها .. سقطت أمي صارخة، دفعها بكل قوته وبيديه التي تفوح منهما رائحة الخمر .. ارتفعت رؤوس أخوتي في ظلام الغرفة، ارتفع رأسي معهم ويداي تبحث في العتمة عن شيء ما .. أنهض مندفعا .. أخرج مهرولا .. وفي الحوش وجدته يركل أمي بقدمه .. رفعت ما بيدي وغمامة تغشى عيني فلا أشعر إلا بصوت ارتطام الحديدة على رأسه .. أستيقظ على صرخة أمي :
–  ذبحته ؟
وتلطم كأنها في مأتم، وتسيل دمائه حتى تلامس قدمي الحافيتين ..فتنتشر في جسدي نشوة .. نشوة ثورة تلاها انتصار. لم أبالي بالتفاف أخوتي حول أمي وبكائهم المذعور .. لم أبالي بطرقات الباب التي تهافتت على باب البيت من الجيران .. كل ما عنا لي في تلك الليلة
أنني قتلت مبارك زوج أمي .. وأنني لن أنتظر الليل يأتي .. مرة أخرى .
 
– تمت –

Exit mobile version