صور : لآخر غابة إستوائية في اليمن – محمية بُرَعْ الطبيعية

بسم الله الرحمن الرحيم

محمية بُرَعْ الطبيعية .. غابة اليمن الاستوائية

من يحلم أن يتجول في أدغال الغابات ولا يخرج عن نطاق شبه الجزيرة العربية، يمكنه تحقيق ذلك الحلم بزيارة غابة «بُرع» المحمية الطبيعية، فهي لوحة سندسية خضراء بديعة التكوين مازالت بكراً كما أبدعتها يد الخالق. قال عنها الشعراء والكتاب الكثير فأينما يسرح البصر تقع العين على أشجار زاهية ونباتات خضراء تتهادى أوراقها مع خرير المياه المنحدرة من أعلى قمم الجبال على مدار العام، لتعزف أجمل سيمفونية موسيقية من لحن الطبيعة الخلابة، تذهب بخيال المرء بعيداً خارج حدود الزمان والمكان، فينتعش الذهن وصاحبه يستنشق هواءً صافياً عليلاً منزهاً من ملوثات العصر، ويستمتع النظر بمرأى الفراشات مختلفة الأحجام والألوان وهي ترفرف فوق الأزهار، فتختلط زقزقة العصافير النادرة بأصوات الحيوانات الجبلية خاصة القرود المتوارية خلف الأشجار الكثيفة المتناثرة في سفوح الجبال وحتى قممها الشاهقة. تكشف التقارير المتخصصة «ان طبيعة المحمية ماتزال مصانة ولم تمتد إليها يد التدمير أو العبث مما يستهوى الزائرين لها وذلك للتمتع بالمشاهد الرائعة التي تأخذ العيون وتأسر الألباب بما تحويه من مخزون طبيعي ومناظر خلابة تتنوع كلما تم التوغل داخل غاباتها عبر المسارات المحددة بين الجبال وبين الأشجار، مع استنشاق نسمات الهواء المنعشة».

تقع برع إلى الشرق من مدينة الحديدة وتبعد عنها حوالي 50كم ( المسافة التي يقطعها الزائر في الطريق الرئيسي الذي يربط الحديدة بالعاصمة صنعاء والتي تنتهي عند منطقة القطيع ) بعدها يأخذك الطريق الإسفلتي الفرعي الذي يمتد حوالي 20كم ليوصلك إلى قلب المحمية الطبيعية وأجزاء كبيره من هذه المديرية ، وثمة طريق إسفلتي أخر يمتد من مدينة المنصورة – الواقعة على الطريق الرئيسي بين الحديدة وتعز- حتى مديرية السخنة بمسافة حوالي 70كم .

يعد جبل برع احد المرتفعات الغربية التي تطل على سهل تهامة ووادي سهام ، يبلغ ارتفاعه حوالي 2200م عن سطح البحر ، يحده من الشمال مديرية باجل، ومن الشرق وادي صيحان ومرتفعات محافظة ريمه، ومن الجنوب مديرية السخنة ، ومن الغرب وادي سهام.. وفي التقسيم الجغرافي والبيئي تعتبر منطقة برع من المناطق الواقعة ضمن الإقليم الأول ( إقليم البحر الأحمر ) للتنوع الحيوي في اليمن ، وذلك في التقييم الدولي للصندوق العالمي للأحياء البرية عام 2002م ، والذي قسم اليمن إلى أربعة أقاليم بيئية تضم أهم مناطق التنوع الحيوي على المستوى الدولي .

وقد عزى المؤرخون سبب تسميتها بهذا الاسم إلى برع بن عمرو بن سوران بن ربيعه .

محمية برع .. إطلالة جغرافية
تسكن المحمية في الشمال الشرقي من مدينة الحديدة وبالتحديد في وادي رجُاف الواقع في الجنوب الغربي من مدينة رُقاب ، ويبلغ ارتفاعها (300-800م) عن سطح البحر ، يحدها شمالاً منطقة الفاش والمنوب وعزلة بني باقي ، وجنوباً وادي الأسود ومديرية السخنة ، وشرقاً سلسلة جبال محافظة ريمه وقرى الجيلان ، وغرباً وادي سهام والقطيع والمراوعة .
تمتد المحمية لتغطي منطقة سوق السبت حتى منطقتي الكاحل والمرخام ، وقد قّدر هذا الامتداد بحوالي 5كم تتدفق خلاله مشاعر الإعجاب بروعة المكان وخاصة في حال التوغل إلى قلب هذا الامتداد حيث تتراءى مساحات مغمورة بالاخضرار زاخرة بالحياة البرية .
تقدر المساحة الإجمالية للمحمية حوالي (4287) هكتار ، وقد صنفت هذه المساحة إلى منطقتين بناءاً على الكثافة النباتية التي تقل في منطقة وادي رجاف ثم ما تلبث أن تستعيد كثافتها لتشمل باقي أجزاء المحمية المتربعة على طول الارتفاع .
قّدر لهذه الغابة أن تظل شاهداً حياً على ماكانت عليه بيئتنا اليمنية على مر السنين ، والشواهد الجغرافية قد دللت انحدارها من سلالة تلك الغابات الاستوائية التي كانت سائدة في شبة الجزيرة العربية قبل مئات السنين ، ولعل المتابع لنتائج المسوحات الاحيائيه التي قامت به بلادنا بالتعاون مع المنظمات الدولية المعنية يجد أن المحمية قد سادها نباتات الإقليم السوداني مما يبرهن بجلاء حقيقة توحد الصفيحتين القاريتين الافريقيه وشبه جزيرة العرب على شكل كتله واحده ، قبل حدوث الصدع الإفريقي العظيم الذي نتج عنه البحر الأحمر حالياً ، وذلك في العصر الجيولوجي حسب علماء الجيولوجيا .
يسود المحمية مناخ معتدل على شبه حار معظم أيام السنة ، وكثيراً ما تستريح الغيوم فوقها لفترة قد تطول كثيراً خلال العام ، في حين تتراوح درجة حرارتها بين (18-43) درجة مئوية .

التنوع الحيوي ..
تشكل غابة برع حديقة طبيعية مفتوحة تحوي عوالم إحيائية نباتيه وحيوانيه منها النادر والمستوطن، المكان أشبه بمنجم بيولوجي ظل لسنوات في طور المجهول بعد أن كان الإنسان – بفطرته ومحدودية تفكيره – ينظر إليه باعتباره مكاناً زاخراً بكل المعطيات الطبيعية التي تلبي متطلباته البسيطة .
في هذا السياق تحدثنا الشواهد التاريخية أن هذه المحمية كانت ملكاً لرجل كريم من عائلة البجلي سعى إلى تقسيمها بين كل أهالي مجتمعه في العام 1816م ومنذ ذلك التاريخ والمكان تحت حماية الأهالي ، حيث أفلحت الأعراف القبلية السائدة آنذاك في حماية هذا النظام الطبيعي وعملت على استدامته واستمرارية بقائه حتى داهمتنا ثقافة المحافظة على هذه الأماكن من مخاطر التلاشي والانقراض ، والتي جاءت نتاج هذا العصر الصناعي الأخير الذي جعل الإنسان يزهو مختالاً بما حققه على صعيد النهضة العلمية الشاملة .
فقد كان للحركة الصناعية دورها في تثبيط الجانب الطبيعي ،حيث أسهمت بدور كبير في تعطيل هذا المسار، بل وعملت على شل حركة التوازن الايكولوجي في المحيط الحيوي ، وتسببت بقدر كبير في تدمير النظم الاحيائيه ، وهو ما استدعى من العالم الوقوف وتغير السياسات تجاه البيئة بشكل عام ، وقد مثّل العام 1972م البداية الحقيقية للالتفات نحو هذا المحيط المتهالك .
تم الإعلان عن غابة برع كمحمية برية طبيعية بصورة رسمية في يناير 2006م

غابة استوائية كثيفة…
يتفق المشتغلون بقضايا البيئة على أن غابة برع تُعد اكبر محمية حراجية (مدارية) ليس في اليمن فحسب بل في شبه الجزيرة العربية كلها ، فهي امتداد حقيقي يبرهن على تلك الحقبة الزمنية التي كان فيها الاخضرار سمة المكان بلا منازع ، وكانت مساحات واسعة من الغابات الاستوائية لازالت تعمر الأرض وتبث فيها الحياة ، وهي تلك الحقبة التي أعقبها تغيرات المناخ وتدخلات البشر والتي نجم عنها تقهقر تلك الغابات واختفائها إلى الأبد .
ربما كان لموقع هذه المحمية – الذي ظل بكراً لقرون – أثر في بقائها صامدة أمام الظروف والمتغيرات وربما لذلك التنوع المناخي الذي تميزت به المنطقة ، والذي ساهم بشكل كبير في تشكيل البيئة النباتية المتنوعة والمتميزة من حيث كثافتها وتعدد أصنافها .
على المستوى التصنيفي فقد رصدت الدراسات حوالي (315) نوعاً نباتياً تتبع (83) فصيلة و(209) أجناس، المسوحات أثبتت تواجد (63) نوعاً نادراً على المستوى الوطني والإقليمي مما جعلها ذات مكانة بيئية خاصة ، هناك (35) نوعاً مهدداً بالانقراض تحرص قيادة المحمية أيما حرص على استدامتها خاصة بعد أن فشلت جهود العاملين في الحقل البيئي داخل المحمية على استعادة احد الأنواع الذي تسببت فيها الاستحداثات الاخيره المتمثلة بشق وسفلتة الطرق داخل المحمية ، رغم ما حرصت عليه المادة (20) من قانون حماية البيئة رقم (26) لسنه 1995م حين أطلقت تحذيراً بهذا الخصوص .
ثمة أنواع مستوطنه لاتوجد بأي مكان أخر أهمها نبات التنواب (Abrus botte ) ونبات الصبر (Aloe pendens ) والبياض ( Centaurothamuns maximus) والقطف ( Commiphora kataf) .
لكن الملاحظ في هذه النباتات وخصوصاً النادرة منها يجدها تحمل طابع الإقليم السوداني وقليل جداً ذات طابع صحراوي ، نذكر منها نبات العرفط ، خرش ، المسرح ، الطنب ، حوجم ، قرف ، شهث ، حنة الفيل ، عثرب ، هدس ، تألب ، اراك ، ظبر، رعد …..الخ وكلها بالطبع مصنفة تصنيفاً علمياً دقيقاً ، ولعل أهم ما يميز هذه المحمية اليوم أنها أصبحت معلماً بيولوجياً طبيعياً توفر قاعدة معلوماتية ينهل منها الباحثين والمؤسسات والمهتمين بدراسة الطبيعة ومواردها الحية ، باالاضافة إلى انفرادها ببعض الأصناف التي تستعمل لغرض العلاج أمثال نباث العثرب والأراك ( السواك) والبابونج والهيدر، وهذه الاخيره يُستفاد من عصارتها في القضاء على سموم الأفاعي في الجسم البشري ، ولاننسى تلك الأصناف العطرية التي تمنحك طاقة أمل لرؤية الحياة بشكل أفضل ، ومن أهمها أشجار الشذاب والريحان والفل .

موطن الطيور
هناك أسباب متعددة جعلت من هذا البلد موطناً خصباً للطيور المهاجرة والنادرة والمستوطنة ، خلص إليها الباحثون بعد دراسات عدة ولعل من أهمها ما يمثله موقع اليمن من عزل جغرافي وصحراوي جعل منها محطة هامه لاستراحة الطيور المهاجرة القادمة من الشمال باعتبارها نقطة توقف هامة ، بالإضافة إلى التنوع المناخي وتعدد التضاريس الطبيعية اللذين أثرا ايجابياً في مستوى تنوع وتعدد البيئات.. وفي هذا الصدد شكلت محمية غابة برع الوجهة الأبرز لتواجد الطيور وتنوعها ، وقد توج هذا التصنيف عندما تم اختيارها من قبل المنظمة الدولية لحماية الطيور( التي تتخذ من بريطانيا مقراً لها ) في العام 2004م لتصبح ضمن أهم (57) موقعاً عالمياً للطيور المستوطنة والنادرة .
أثبتت الدراسات التصنيفية تواجد (93) نوعاً تقريباً من الطيور على مدار العام منها (32) نوعاً مستوطناً و(17) نوعاً ذي أصول إفريقيه ، ووفقاً لتلك الدراسة تبين أن أبو معول الرمادي قد جاء في المرتبة الأولى من حيث كثافته العددية ، وجاء طائر الذباب الإفريقي ثانياً ثم طائر الثرثار العربي ، في حين أشارت الدراسة إلى أن هناك (5) أنواع تستضيفها المحمية خلال فصل الصيف ، أبرزها طائر الكوكو المتطفل ، والحمامة الخضراء حيث تشهد موسماً للتزاوج والتكاثر .

الثدييات
تؤوي محمية برع الطبيعية العديد من الأحياء البرية بعد أن توفرت فيها عناصر الاستقرار الثلاث الماء ، والغذاء ، والحماية أو الأمان ، والمتأمل لتضاريسها يجدها مليئة بالشقوق والكهوف التي تمثل ملاجئ آمنه لاستقرار هذه الأحياء وتكاثرها .
ووفقاً لدراسة أجراها باحثون من الهيئة العامة لحماية البيئة اليمنية تبين أن المحمية تحوي (9) أنواع من الثدييات البرية ، أبرزها قرد البابون (الرُباح) وهو الأكثر انتشاراً ، كما يلاحظ انتشار بعض الأنواع النادرة مثل الضبع المخطط والدعلج الهندي والنمس الأبيض الذيل والوشق ذي الأصول الافريقية .

أحياء زاحفة وأخرى طائرة
أينما تجد الحياة عامرة بأهلها فتذكر أن ثمة شرياناً مائياً يسري في جسد الطبيعة المجاورة، في برع نلاحظ مجتمعاً من الأحياء الزاحفة قد استوطنت بالقرب من مورد الماء ، هذه الأحياء لطالما بعثت على الخوف والاشمئزاز ، لكنها- شئنا أم أبينا – جزء من مجتمع أحيائي يرسم – بعناية – معالم هذه الخارطة البيولوجية التي لا يُستغنى عنها في سجل الحياة ، حيث يقودنا التفكير من خلالها إلى التسليم بحكمة الواحد الذي لم يخلق كائناً عبثاً .

قُدَِر لي أن أزور هذه التحفة الخضراء الجميلة آخر شهر إبريل الماضي للمرة الأولى !
الطريق إليها سالك ومعبّد وهذا شيء جيد ، والخضرة فيها فاقعة ومذهلة ..
طبيعتها تشبه إلى حد كبير ما نراه في جنوب شرق آسيا أو جبال الهند ..
شاهد معي هذه الصور الرائعة لهذه الغابة الجميلة في اليمن السعيد…

في البداية تتراءى هذه الجبال العالية أمام عينيك إيذاناً باقترابك من المحمية

الخضرة تشاهد يميناً وشمالاً ، وهذه بعضها

الاقتراب أكثر من المحمية واللون الأخضر يزداد بسرعة

تستقبلك هذه اللوحة في بداية المحمية

لحظات معدودة …
وإذا بالألوان تنقلب 180 درجة !

يخيل لك أنك في أحد أدغال إفريقيا !

من بعد هذا المكان بمسافة ليست بالقصيرة كان يمكننا الاستمتاع بالمياه الجارية ..
لكن للأسف الشديد ، هذه الصخرة أوقفتنا وتوقف المسير !

البيوت معلقة في رؤوس الجبال كما ترون

أحد السياح يستمتع ويعيش أحلى اللحظات مع المناظر الجميلة الآخاذة

الرحلة كانت جميلة بكل المقاييس
نراكم بإذن الله في تقارير جديدة من اليمن الخضراء
شكراً لكم

تصوير وإعداد: تركي عبدالله المحيا
صنعاء – اليمن


تابع جديد رسائل المجموعة على تويتر


twitter.com/AbuNawafNet

Exit mobile version