سأقدم إستقالتي ، منذ أكثر من عام وضعت عنوان التدوينة ورؤوس أقلامها، ثم انصرفت الهمة عن إتمام الكتابة وقلت أدعها حتى حين، وخلال الأسابيع الماضية زاحمني ولاحقني العنوان مجددا، حتى منعني من كتابة تدوينات أخرى، ربما لذلك علاقة بقرب اكتمال المرحلة الثانية من حياتي العملية، فما حكاية المقالة!
شجرة قوقل
في إحدى الدورات التدريبية مطلع 2008م عرضت مقطعا مرئيا أنتجته قوقل عن نمط الحياة في بيئة عملها بعد أن صارت الشركة الأولى حينها، ودون شك حوى العرض الكثير من الميزات والمحفزات من خدمات وترفيه وعناية، ربما إن علمت الشركة التي طلبت التدريب هذا العرض لألغت التعاقد وخاصة أن التعليق التلقائي من المتدربين بعد مشاهدة العرض: “كيف أقدم لديهم؟”، ”سأقدم استقالتي”.
ولكن التعقيب على تعليقات المتدربين والنقاش ابتدأ بعدد من الأسئلة:
- لماذا ترغبون في العمل لدى قوقل؟
- لماذا تعتقدون أنهم سيختاروكم من بين مئات وآلاف تقدموا إليهم مثلكم؟
- ما هي برأيكم الصفات والمواصفات التي يفترض أن تكون في موظف في هذا المكان؟ وهنا مربط الفرس
السؤال الأخير تحديدا يبتدأ بعصف ذهني لكل المواصفات ثم ترتيبها وتصنيفها، ثم نرسم في النصف الأيمن من الورقة شجرة لها فروع وأوراق تحوي كل منها واحدة من هذه الصفات وهي التي أسميتها: “شجرة قوقل”، ثم يرسم كل متدرب في الجزء الأيسر شجرته الخاصة به للصفات المتوافقة أو الموجودة فيه بناء على تقييمه لنفسه ، ومن نظرة أولية تجد الفرق جليا.
أذكر أن الذي دفعني لابتكار هذا التمرين هو نسبة التذمر من بيئة العمل في عدد من الشركات الكبرى لدى المتدربين، والشعور المتكرر بالظلم وعدم التقدير، فكان الهدف تركيز الهمة للتطوير الذاتي والعمل على التحسين، وبدء التعود على نقد الذات وتقييمها، فكما يقولون: “العاقل خصيم نفسه“.
لماذا تستقيل؟
وقال لي.. في المخاطرة جزءُ من النجاة – النّفري
سألت عددا من الأصدقاء السؤال ذاته، فكانت الإجابات متنوعة ومختلفة وأحيانا متضاربة، إشارة إلى أن عوامل اتخاذ القرار مختلفة تبعا للحاجات والرغبات أحيانا وللدوافع والمقاصد من الالتحاق بالعمل أحيانا أخرى، واختلاف نظرة الأشخاص إلى نفس الشيء. ففي المقابلات الشخصية للتوظيف عادة ما يكون هناك سؤال تقليدي : لماذا تركت عملك السابق؟ ويهمل فيها سؤال أهم: ما الذي قد يجعلك تترك العمل معنا؟ وبعبارات أخرى تترجم السؤال: ما الذي تبحث عنه في جهة العمل الجديدة؟
قد يكون باحثا عن بيئة إبداعية، أو يرضى ببيئة عمل صحية لا تركن إلى الواسطة والمحسوبية، أو باحثا عن التحسين المالي، أو ربما عن الخبرة وصقل الموهبة، أو لمكان أو طبيعة عمل تتوافق مع شخصيته وطموحه وقيمه. وهناك من يبحث عن التطوير والتعليم المستمر، وآخر يبحث عن التحديات والتغييرات السريعة لمواكبة تطورات سوق العمل والتقنيات الحديثة، وهناك من يهمه مجرد العمل أو مجرد اسم جهة العمل.
أو ربما يهتم للصفات القيادية في نفس الجهة أو على مستوى الدولة نفسها، سيما إن وجدت قائدا حقيقيا تعمل معه، وإليك علامتان بسيطتان كمؤشر للقائد الحقيقي:
- القائد الحقيقي: من يؤمن فريقه بأنهم قادرون على تحقيق أحلامهم من خلاله
- القائد الحقيقي: لا يوجد أتباعا، بل مزيدا من القادة. “توم بيترز”
وهناك دراسة لمركز SHL في أغسطس 2012 عن ترتيب الدول التي لديها قدرات وكفاءات قيادية في الوقت الراهن ومستقبلا، عربيا حلّت دولة الإمارات الترتيب 21 حاليا و 12 مستقبلا، بينما قفزت أم البلاد “مصر” من كونها خارج القائمة في الوقت الراهن إلى الترتيب 3 مستقبلا بعد تركيا وتسبقها المكسيك.
لذلك قبل أن تتقدم إلى وظيفة فكر مليا ماذا سيجعلك تستقيل؟ وإذا أردت الاستقالة يوما فتذكر هل تحققت أهدافك التي وضعتها حين التحقت بعملك الحالي، وهل انتقالك لعمل آخر سيعينك على تحقيقها، أو ربما تبدّت لك أهداف وطموحات جديدة؟
الموظف والوظيفة
علامة الظفر بالأمور المستصعبة: المحافظة على الصبر، وملازمة الطلب، وكتمان السر – بزرجهمر
حين تقول “موظف” يتبادر إلى الذهن عدد من المفردات التي التصقت بالتسمية، ولعل ذلك نتيجة مشاهد حقيقية رأيناها في حياتنا ومن حولنا، ولعل انحدار اللغة وتدهورها أودى بتدهور الفكر والنظر للأمور، فمثلا في اللغة نقول: وظّفتُ المال => أي استثمرته فاستفدت من قيمته بوضعه في الاحتياج الصحيح. ونقول: وظّف فلانُ موهبته وخبرته => أي انتفع منها ووجهها في تحقيق هدفه ومهمته.
فالوظيفة إذاً هي المساحة التي يستمثر فيها أحدهم إمكانات وخبرات شخص آخر ليحقق غرضه من الاستثمار بمنفعة متبادلة.
ومن اختلاف مستويات النظر لمفهوم “الوظيفة” تجد أشخاصا لديهم خبرة عشر سنوات في عمل ما، ولكنها لا تساوي سنة واحدة من حيث قدر توظيف المهارات والإمكانات لإنجاز العمل، فالخبرة ليست بعدد السنوات التي يقضيها شخص في وظيفة ولا بعدد الساعات التي يقضيها يوميا، ماذا إن علم البعض عن نتائج استطلاع رأي أجراه موقع لينكدإن Linkedin على أكثر من 7,000 محترف مهني من 18 دولة حول الأدوات والنقاط المتوقع انقراضها خلال الـ 5 أعوام القادمة في سوق العمل، فكان: توقع انقراض مبدأ ساعات العمل النمطي النتيجة 4 وبنسبة 57%.المصدر
أرضٌ واسعة..
تلكَ الأرضُ الكريمة..
تأخذ الفضلات،
فتزهر جمالاً وحياة..
حاول.. أن تتعلم من الأرض.
جلال الدين الرومي
لكل أرض تنزل بها تضاريسها الخاصة بها، فما تضاريس أرضك ومعالمها، وما وسعها ومساحتها، أذكر أني دونت معلومة ذات مرة عبر الأثير من د. محمد راتب النابلسي: أن نجم قلب العقرب يتسع للشمس والأرض والمسافة بينهما، (هذا خلق الله). أهـ.. ولكن السعة الأكبر في ذاتك ألا وهي “سعة أخلاقك”، وفي ذلك يقول الشاعر :
لعمركَ ما ضاقت بلادٌ بأهلها ** ولكنَّ أخلاق الرجال تضيقُ
فتنبه قبل أن تراقب أخلاق الآخرين وضيق تعاملاتهم راقب تعاملات نفسك معك فلربما ضاقت روحك بأفعالها قبل أن تضيق من الآخرين.
تأمل ماذا بذرت لتحصد، واحرص في حياتك العملية على تعلم الصنعة وتعلم ربط الصنعة بأختها، وتمرّس على حسن المواكبة وسرعة التعلم والتركيز والتطوير المستمر، كن ذا همة وطموح و اجعل ذلك كله مصحوبا بالإتقان وجمِّل بالإحسان، واعمل ضمن فريق ما استطعت، وجالس وخالط أهل الخبرة والحكمة، وإذا ظفرت بمن تتلمذ على يده وتلازمه فافعل.
واحذر من أن تغتر يوما بذاتك وصنيعك، (وما بكم من نعمة فمن الله)، واحذر مخالطة من يخذل همتك أو يصرفها إلى الكسل والملل والإحباط، أو من يومه كأمسه لا جديد مفيد في يومه وليلته، وجانب معاشرة من أسميهم “النباتات المتسلقة”، كي لا تكون مصعدا يوما ما.
فكر لماذا تعمل؟ متى تقبل ومتى تترك؟ و إن كنت أجدني خلال هذه الفترة بين الفكرة وكتابة التدوينة، قد وصلت إلى عدد من النقاط والقناعات، ووقفت على عدد من الاكتشافات من عيوب ونقاط في الذات.
وختاما أرجو أن يكون في هذه الكلمات البسيطة ما يوافق حاجة باحث أو متأمل فينتفع منها وبها، ولتكن أرضك واسعة وآفاقك شاسعة، (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون).
محمد السقاف – مدونتي
حيثُ لا سقفَ للمعرفة