رسائل المجموعة

من أينَ جئتِ ..؟

 أشعر بزحمة أحاديثهنّ تتسلل إلى صفاء ذهني،
تحاول أن تُحيل تماسك أفكاري إلى شئ يشبه العهن المنفوش !
أقفُ على مقربةٍ من تراصّ أجسادهنّ حولَ جدتي،

لأُعيد ترتيبَ أكواب الشاي البيضاء المزخرفة بُزرقةٍ تُشبه سماء أيّار،
بحيث تكون قبضة كل كوب مُطلة إلى الخارج: “كي يسهل عليهنّ الإمساك بها” أبرر ذلك لابنة أختي الصغيرة..
بينما تعبثُ بالملاعق البرّاقة، وتسرق حبات من مكعبات السكر لتصهرها بالعرق الذي يبلل أطراف أناملها الضئيلة..

تنفضُ بقايا السكر العالقة بكفّها الصغير،

وتسألني متذمرة: خالة.. لماذا يصرخنّ ؟ هل كل النساء لا يسمعن جيدا ً !
أضحكُ لفكرتها التي تحاكي فكرتي تقريباً و أهمّ بتوزيع الشاي بينما تتبعني صغيرتي الجميلة لتُراقب و تسأل وتحلل ببراءةٍ وشقاوة..

انحني إلى السيدة الأولى التي تجلس أمامي: شاي..؟
تمدُّ يدها لتجثو على كوب الشاي بشكلٍ متقنٍ دونَ الاصطدام ببقية الأكواب، رغم التفاتة وجهها إلى جهةٍ أخرى !!
تتحدث بصوتٍ عالٍ حادٍ و مكتظٍ بالحماسة، يكاد حديثها أن يخرق طبلة أذني لحدّته..

أُكمل توزيع أكواب الشاي على بقية النساء ويشعّ من وجهي امتعاضٌ بحجم السماء..
أرى جدتي الوحيدة التي تلفّها الأنوثة الحقيقية بين جميع الجالسات وإن بَلَغَتْ من العمر الكثير..
هدوءها.. إشراقةُ صوتها.. بريق عينيها..
إيماءاتِها معتدلة السرعة.. ضحكتها الخجولة .. اقترابها الدافئ ممن يسرُّ لها بالحديث..
ياااه ! هي كائن جميل جداً.. رقيق.. حنون.. و معطاء..

*

أرتمي بعد كُلَ صلاة عشاء بمحاذاتها.. تعبثُ أناملها الناعمة بشعري، وأحياناً تتسلل لتقرص وجنتي بخفّة..
تمسحُ بيدها المخضّبة برائحة الحناء والحنان على ظهري بينما تحكي لنا عن قصصٍ غريبةٍ ممتعة،
تسلب بحكاياتها ألبابنا وتحرّض أعيننا على السكون ترقّبا و حماسة.

أحياناً أغرقُ بعيداً عن أحاديثها بماضيها.. منشأها.. حياتها الأولى وأصلها..
من أين تنبع هذه الأنوثة الفاتنة؟ من أين أتت !
من أي عصرٍ وبلدةٍ وبيئةٍ ينساب هذا الحنان الجميل والعطاء الممتد ؟

ربما كانت من جهةٍ أُخرى من العالم ليست ببعيدةٍ جداً..
هُناك ببقعةٍ قصيَّةٍ من الحدود التركيةِ البلغارية.. حيثُ تسكن جبال البلقان..
تنتمي لأسرةٍ فقيرةٍ إلا أنها سعيدة. لها أخوة كُثر.. لدرجة أن أبوها ينسى أسماؤهم أحياناً !
تستيقظ قبل أن تصحو الشمس في بلدتها.. وتنامُ بعد غروبِها بقليل..

تتحمل مسؤولية كل أخوتها الذين يصغرونها، تذهب راجلةً كُل صباحٍ برفقة أخيها الأكبر إلى سوقٍ قريب
تحمل سلّة خضارٍ بيمينها وأخاً رضيعاً بيدها الأخرى.. تبيعُ وتبتاعُ وتُبادل السلع..

وفي طريق العودة تمشي مسرعة الخطى و تسبق أخيها الأكبر بمسافةٍ كبيرة، تمرّ على أرضٍ ليست مملوكة لأحد..
تُسقط السلة بقوّة و تُمدد أخاها الصغير على الأرض بحذر، ثم تُطلقُ العنان لأقدامها وتسابق نسماتَ الهواء المشاغبة مثلها..

تُداعب خيوط الشمس عينيها الناعسة المحشوّة بالزُرقة فتنبت على جبينها حبّاتٍ صغيرة من عرق الشغب
وتنفر الدماء جميعها إلى وجنتيها لتحيلها إلى كائن أجمل من الورد..

تركضُ على مقربةٍ من حقول التفاح وتلحق بها جديلتها الذهبية الطويلة..
إلى أن يصل أخوها الأكبر ليخطف السلة والرضيع ويسبقها إلى المنزل بينما تلحق به.. تصرخ .. تضحك .. و تلهث !

تتحدثُ بغير العربية لكنها تضحك وتبكي وتشعر وتحلم وتفكر مثل أولئك العرب الذين تجهلهم تماماً..
لذلك ارتضى بها ذلك الشابّ البدويّ العربيّ زوجةً ورفيقة درب..

لا تعلم ما الذي أتى به من ذلك المكان البعيد المعزول عن العالم !
ولما وقع الاختيار عليها دون أخواتها اللاتي يفُقنها جمالاً ويصغرنها عمراً !
وكيف وافق أهله على اقترانه بغير فتيات بلاده !

إلا أنها كانت تشعر بسعادةٍ غامرةٍ لتحوّل حياتها إلى أمرٍ جديدٍ لم تكن تحلم به أو تتخيلّه..
بمهرٍ زهيد، و بدونِ حفلةِ زفاف.. يأخذها إلى حيثُ ينتمي. لتُزهر بجانبه يُظلها بوارف ظلاله ويسقيها من فيضِ عطاءه..

*

أو ربما كان جدّي ساحراً أتى بها من بلاد الأندلس..!
أيقظها من حضنِ قصيدةٍ أندلسيةٍ كانت تتدثر بكلماتها بينما تنام في قلب غرناطة هانئةً آمنةً في ظلّ أُسرتها..

تنحدر بأصلها من قبائل الفندال البدائية التي اتسمت بالوحشية على عكس رقّتها، تلك القبائل المنحدرة من شمال اسكندناف..
والتي سُميت البلاد نسبةً لهم ” فانداليسيا” ومع الأيام حُرّف إلى أندوليسيا فأندلس – فكرة !

أو لا ليست فندالية.. بل إن حدة أنفها وعمق عينيها ودقة ملامحها تشي بأنها ابنةً لأحد أُمراء بني أمية،
جاءت من قرطبة يشبه شموخها تلك النخيل الباسقة التي استوردت من بلاد الشام لتجميل قرطبة.. وتغرف عينيها زُرقةً من صدر البحر الأبيض المتوسط..
اغتبطُ لهذه الفكرة ( جدتي أميرةٌ أندلسية ! ).

*

أو ربما كانت أحاديثها المعطّرة بلهجةِ أهل الجنوب تشي بانتمائها لأقصى شبه الجزيرة العربية !
رائحة يديها ووجنتيها الفاتنة تنبئني بأنها كانت ابنةً لتاجر عطورٍ عاش في مملكة سبأ قبلَ مئات السنين..
لكن هل كانوا يتحدثون بنفس لغة أهل اليمن اليوم ؟! هذا لا يعدو أن يكون مجرد خيال..
لذا سأقول نعم كان أهل سبأ يتقنون لهجة جدتي السريعة الصعبة والجميلة أيضاً.

تسكن في منزل يشبه القلعة في مأرب العاصمة، تُحيط بها النباتات العطرية الرقيقة وتخدمها الجواري الناعمات
ويُجلَبُ لها ما تشتهي نفسها وعينها كلما شاءت وإن كان ذلك من بلادِ الهندِ البعيدة أو اليونان..
ولم يخطر لها أن يأتيها يوم ما ساحرٌ بدويٌ مأخوذ بجمالها..
يأتي بها معه إلى عهدٍ حديث ويُدخلها في دين جديد ويُلقّنها لغةً أخرى،
تعيش معه مرَّةً أُخرى حياةً جديدةً بذاكرةٍ جديدةٍ وتهبّ على قلبها بين حينٍ وآخر ذكرياتٌ لماضٍ سحيق لم تعد تُميّزه.

*

تُلاحظ جدتي شرودي وابتسامتي المعلقة بسذاجة على وجهي.. تسألني عمّا بي ..
أُجيبها لمرّةٍ ليست بالأولى ولا الأخيرة: من أينَ جئتِ يا جدة ؟
فتبدأُ الحديثَ عن نجـد بنبرةٍ تُشبه الحزن.

نـوره علــي


تابعوا جديد شبكة أبونواف على فيس بوك وتويتر

   

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. مقال رائع سلس وتعابير جميلة لكن لم التحدث عن نجد بنبرة حزن ؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى