رسائل المجموعة

صالح العزاز الى رحمة الله

ورحل صاحب ((المستحيل الأزرق)) إلي ((الأتجاه الاخر))
صالح العزاز إلي رحمة الله

صالح

رحيل إنسان مبدع
أحمد الربعي

انقباض في القلب، وحزن يكاد ان يهد عزيمة الرجال، لقد رحل صالح العزاز الصديق الجميل المبدع بعد معركة غير متكافئة مع المرض اثبت فيها شجاعة نادر. رحل صالح العزاز، قطعة من بهاء جميل سقطت، وروح من الابداع الذي لا تحده حدود رحلت، وقلب لم يكن يحمل للناس سوى المحبة توقف عن الخفقان.
الذين يعرفون الكاتب الفنان صالح العزاز نشعر تجاههم جميعا بالشفقة، من حجم المصاب على المستوى العام والخاص، الانساني والشخصي. ووحدهم الذين لا يعرفون صالح العزاز سينامون دون ان تنقبض قلوبهم من الحزن.
قبل ايام وتحديدا ليلة العيد وقفت الى جانب سريره في المستشفى التخصصي في الرياض. تحدثت معه ولكنه لم يكن يستطيع الاجابة، شعرت ان لغتي تصل اليه واضحة منسابة كنسمة شمالية، لكنه كان عاجزا عن التعبير، كان يعاني الألم ويعيش لحظات المرض التي لا يشعر بها الا من يعيشها..!!
أخوه كان يساعدني على استنطاقه… قال لي انه نطق ذلك الصباح بكلمة الألم… فأجابه بكلمة الأمل.. فربط بينهما وكأنه يحاول الانتقال من حال الى حال ومن عالم الى آخر!!
صالح العزاز.. عاش مبدعا يكتب الشعر والمقالة.. يرسم الحياة بكل تلاوينها.. لم يؤذ احدا، ولم يجرح خدود الورد.. كان صديقا للأطفال والزهور، ابتسامته لا تفارق وجهه مثلما كاميرته لا تفارق رقبته.. وكان شجاعا الى درجة نادرة.. ولقد كتب شهادته عن الحياة والمرض خلال رحلته الاخيرة مع الامل والألم!!
كنا في الربيع نخرج الى حيث لا حدود للزمان والمكان… كنا نهيم على وجوهنا في الصحراء.. يرسم الزهور والخراف الصغيرة، وكثبان الرمل ويكتب شعرا ونثرا ومحبة، وكان يعيش حياته بكل زخمها وتحديها كصاحب رؤية وصاحب قضية دفع ثمنها اكثر من مرة!!
رحل الرجل الارعبيني في عز شبابه وعطائه، لكنها ارادة الله فالأمانة عادت الى صاحبها، وبقيت الذكرى مثل زهور الربيع تنشر المحبة بين الناس وتؤكد ان الدنيا ما زالت بخير رغم الألم!!
تصفحت دفترا كتب عليه الكثيرون مشاعرهم في غرفته في المستشفى التخصصي، كلمات من القلب كتبها أمراء وعلماء وبسطاء ولكنها كلها كلمات من القلب تتمنى له الشفاء والرحمة!!.. يرحمك الله يا أبا شيهانه.
 


صالح
"نصوص من "المستحيل الأزرق

أيتها الطفلة الشاردة
التي تقيس الهواء بالازرق
وتمتحن الفضة،
تتحدثين عن شيء
وتفكرين في شيء آخر،
وتصنعين ما تريدين

مرت هنا ريح وما كتبت
حتى محت اثرا من غير اسماء
اشباح اشخصا هنا وقفوا
يستنهضون بلادا كلما هتفوا
يهفو لهم خبر
من يستجيب لهم
ريح رجال… نسوة… حجر…
ماذا سيبقى لهم في حسرة الماء

كان وحيدا جدا
في تلك الصحراء
احيانا كان يمشي الى الوراء
ليرى امامه اثرا ما


صرخة احتجاج من مريض
صالح العزاز

هذه قد تكون مداخلة صحافية، او هي صرخة مريض يعاني الموت في سبيل الحياة. صرخة ضد هذا الصخب الدائر. لهذا السبب، أرجو ان يعذرني القارئ عندما اكتب بطريقة مختلفة، فيختلط العام بالخاص، الألم بالأمل.
هنا في هذه المدينة الرائعة هيوستن، وهي أشبه بغابة من المستشفيات المتخصصة بعلاج السرطان، هنا كل شيء يدور حول المعركة مع هذا الاخطبوط. حتى الاعلانات واغلفة المجلات وعناوين الكتب ورواد الفنادق، مرضى ومرافقين. وهنا يتم تطوير احدث الادوية والبرامج والاجهزة والاطباء في سبيل ازالة الالم الانساني، وفي هذه المدينة يوجد اكثر من خمسين مسجدا تقام فيها الصلوات الخمس بهدوء ووقار. هذه صورة امريكا التي تحب. وهي بالتأكيد ليست الصورة الوحيدة.
انا هنا مجرد ضحية عابرة من ضحايا هذا المرض الخطير. لكنني في هذه المدينة بدأت اتلمس الأمل في العودة الى الحياة، الى الوطن، الى الاصدقاء. لكن هذا الصخب الدائر في كل مكان يؤذيني، اريد ان اصرخ، ان احتج. هذا ليس صدام حضارات. هذه فوضى عارمة. هذا الجنون الذي لا حدود له يحرضني على الكتابة. هذا السرطان الذي يصيب عقول الامم والحضارات لم يكتشف له علاج بعد. هذا الالم الدولي ماذا نفعل به، أليس من حقنا ان نحلم بالسلام والهدوء، بالمدارس والفراشات والاشياء الجميلة؟
من محراب الألم المتواصل، من تجربة الموت الصغير، حيث الصورة الاخرى للحياة، الالم يضيء العتمة في النفس والافكار، يحرر البصيرة الداخلية من قبضة المزاج الذاتي المعتم، ذلك الذي يسود حياتنا وأفكارنا في الظروف العادية. هنا حيث المسجد الى جوار الكنيسة. هنا حيث تصبح امريكا وطنا ثانيا بيده الدواء.
* * * حتى الآن مررت بخمس عمليات جراحية، في معركة طويلة لوقف زحف هذا العنكبوت النائم في مركز الدماغ. في كل مرة اجرب فيها الموت الصغير يكبر الأمل واتصالح فيها مع قسوة المرض. احاول ان افهم سر ذلك الخط الرفيع الفاصل بين ان تكون في عداد الاحياء او الموتى. كأن الحياة قسمت دائما الى معسكرين ولا بد لها من ان تكون كذلك. تجربة يراد لها ابو العلاء المعري، لا صحافي ومصور فوتوغرافي لا يعرف حتى عيد ميلاده.
رغم ذلك، فإن عندي من اليقين وقوة الايمان، ما يجعلني قاطعا ان هذه ليست مجرد تجربة عابرة، ويجب ان لا تكون كذلك، انها انشودة جديدة لمطر جديد. ولذا، اريد ان اصرخ واحتج… ليس بسبب ألمي او ضده،فأنا سعيد بذلك تماما. لكنني اصرخ ضد ما لا يطاق، ضد هذه الفوضى العارمة، ضد هذا الانهيار الذي يصيب الافكار، هذا العالم الذي يفقد عقله، ضد الخلط المبالغ فيه بين الضحية والجلاد، وبصورة ماهرة حتى لا نكاد نميز بينهما.. فتأخذ الوردة شكل السكين والقنبلة طعم التفاحة.
ثمة مرضى متعبون يحلمون بغفوة عابرة قبل الغفوة الاخيرة. ثمة اطفال يحلمون بالشمس والحديقة والالوان.
لكنه عالم احتكره السياسيون، فاذا به يكاد يفلت من صورته الجميلة الى مجرد حظيرة واسعة النطاق، وما الموت والظلم والتعذيب غير مجرد تفاصيل صغيرة لنشرات اخبار المساء.
من هنا استأذن القارئ، أن نذهب في اتجاه خارج المشهد الحالي لكي نعود اليه اقل توترا واكثر بياضا او شفافية.
منذ اكثر من ثلاث سنوات، رسمنا خطة جميلة لرحلة عائلية صيفية مميزة تأخذنا الى «الاسكا»، حيث الثلج هو الصحراء بلا حدود، حيث المستحيل الابيض. مجرد هدية من الاب للابناء على انجازاتهم وصبرهم الطويل على أب مغرم بالصحراء، وكأنه من فصيلة الابل الشاردة.
لكن حدثا لم يكن في حساباتنا غير اتجاهات الرحلة تماما. تغيرت المشاهد بصورة تراجيدية غريبة الاطوار. لكنها الحياة!! كنت قد وفرت لنفسي حلما صغيرا اتوقف من اجله لدقائق معدودات في مدينة سان فرانسيسكو، حيث متحف الفن الحديث. المدينة التي انجبت واحدا من عباقرة امريكا في فن التصوير الفوتوغرافي «انسل آدم» ملك الاسود والابيض. هناك يتم الاحتفاء بمناسبة مرور مائة عام على ميلاده. هذا العبقري الذي لا مثيل له. وكنت انا، جريا بأحلامي اخفيت نسخة من كتابي الجديد «المستحيل الازرق» كي اهديها لهذا المتحف. اريد ان اترك شيئا من ملامح بلدي، شيئا من صورة نخيل القصيم، شيئا مني في قلعة الحداثة وقلبها في اكثر متاحف العالم جنونا وأهمية وابداعا، وفي مناسبة عظيمة من هذا النوع. لكن الحلم الصغير الذي خبأته في جوانحي مات مثل فراشة ملونة. انه القدر الذي يرسم لنا احداثا لا نراها، لكننا نعيشها.
ذات ليلة عادية وفي مدينة صاخبة كانت محطتنا الاخيرة، بدأت الرحلة تأخذ اتجاهها الآخر. ومن مدينة لاس فيغاس، في الثالث من اغسطس 2001، اكمل ابن ظلال النخيل رحلته على نقالة متخصصة للمرضى والميتين او المعاقين، بينما عاد الصغار ومعهم «المستحيل الازرق» ومعدات التصوير الى حيث شوارد الابل الى الصحراء.
نوع مختلف من الالم، من الخوف والرهبة. التفت الساق بالساق يا ابن ظلال النخيل. ما اصعب ان تُقبَضْ في مكان وتدفن في مكان آخر..!! مخيفة فكرة العودة الى الصحراء داخل صندوق بارد الى جوار حقائب المسافرين وامتعتهم، وفي حضرة فريق من الغرباء، لا تعرف ما اذا هم قد جاءوا لكي يودعوك أم لينقذوك، لكي تستأنف رحلتك باتجاه مختلف، وألم لم يجرب من قبل، كأنهم من كوكب آخر هبطوا في هذه اللحظة، وعليك ان تحبهم او على الاقل ان تتآلف معهم. انهم ملائكة العذاب والرحمة في اللحظة نفسها. انهم الذين سوف يفتحون جمجمتك ويقرأون اسرار ذاكرتك.
في مدينة الصخب والقمار، بدأت اول تجربة في رحلة الموت الصغير. كنت اعتقد ان هذه حدود الشعور بالالم القصوى، هذه اقصى واقسى درجات العزلة التي يمكن لنا ان نجربها. لكنك تجرب اقسى من ذلك عندما تجد نفسك في مواجهة وجوه جديدة في مكان آخر من هذا العالم، ويقال لك: لا بد من اجراء عملية جراحية ثانية في المكان نفسه. انها تجربة الموت الثاني ولمدة ثماني ساعات متواصلة. لكن التجربة تواصلت بوتيرة اقل الما ورعبا. وها انا اخرج من العملية الجراحية الخامسة بتاريخ ميلاد جديد وأمل جديد وحب جديد.
ومن حدود الالم الخاص الى الالم العام لا يختلف الالم وحجم المعاناة، وإن اختلفت الصورة.
في مدينة هيوستن، وبعد اجراء العملية الجراحية الرئيسية الثانية، بقيت لفترة تتجاوز الثلاثة اسابيع انسانا بلا ذاكرة. تبدو الاشياء مثل افلام الكرتون.. مضحكة وغريبة وغامضة، وقال لي الاطباء ان هذا امر طبيعي.
* * * عندما كنت صغيرا ومولعا بالحياة بطريقة مختلفة، مولعا بهنري ملر ولاحقا بمجلة «نيويوركر»، كان جنوني وطموحي وحلمي ان اكون نيويوركيا مثل جبران.. مثل هنري ملر. لذلك، كنت بحاجة الى وقت طويل لكي استوعب ما كانت زوجتي تحاول ان تشرح لي تعليقا على مشاهد مصورة على شاشة التلفزيون وصفحات الجرائد. مشاهد الطائرات المدنية تنقل الموت والدمار الى قلب المدينة ـ الحلم القديم، الى نيويورك، التي ايضا كان مقررا لها ان تكون محطة رحلتنا الاخيرة، حيث يريد ابن ظلال النخيل ان يقول لهم: هذه مدينتي التي حرمني وجودكم في حياتي من العيش فيها. هذا هو المتروبولتان، المتحف الذي من خلاله تعلمت كيف تجعل الحياة رائعة وجميلة. كل هذا لم يحدث، لكن ما يحدث الآن هو فصل آخر وحريق آخر..
البؤس الذي لم يجرب من قبل. هذه احلامي مبعثرة ومهانة. هذه صافرة الانذار لغطرسة من نوع آخر. هذا هو سرطان الامم والحضارات الذي لا دواء له..!!
* * * هذه مقدمة كان لا بد منها. وازيد فيها الفصل الاخير، وهو اننا في احدى محطات رحلتنا العائلية توقفنا في مدينة اورلاندو، ولاية فلوريدا، لممارسة شيء من الطفولة، حيث مملكة الخيال. الخيال لعبتي وهوايتي المفضلة؟
وهناك وضعت العنوان الاول، لمشروع مقالة كنت انوي انجازها لـ «الشرق الأوسط»، تحت عنوان «الخيال الامريكي والنفط العربي»، وبدأت في التقاط بعض الصور الخاصة بهذه المقالة، وواصلت تسجيل الملاحظات والهوامش. كنت اريد ان اقول ان الخيال لا يقل اهمية عن النفط إن لم يتفوق عليه. فإذا كان النفط يضيء الطرقات ويحرك القطارات والطائرات، فإن الخيال والابداع انما يحرك الطاقات البشرية ويضيء الطريق الى الابداع ويقرب الكواكب والاحلام ويجعل الاشياء المستحيلة في متناول النفط والانسان. وهذا ما يحدث في التجربة الامريكية. وهذه مملكة الخيال «دزني لاند» احدى الشواهد المهمة.. طاقة نفط وطاقة خيال.
وبدأت فكرة لمقالة ثانية اعتقد لو ساعدتني الظروف على انجازها قبل هذه الاحداث الغريبة فإنها ستكون بالنسبة لي قفزة مهمة. وضعت اطارا آخر لمقالة مهمة، جاءت نتيجة لمقارنة صورة المرح في دزني لاند وحالة البؤس والحرمان في افغانستان وباسم الاسلام!! وكانت المقالة مقررة تحت عنوان «افغانستان.. مَنْ الضحية مَنْ الجلاد!!». وقد تحدثت مع الصديق الصحافي الكبير امير طاهري في لندن، حدثته عن المقالتين. لكنني اشرت الى اهمية رأيه وملاحظاته بالنسبة لي على موضوع افغانستان، ثم اجريت اتصالا بالآنسة دينا الخالدي، مديرة وكالة «يونايتد برس» في لندن لتساعدني في توفير بعض المعلومات الموثقة، وخصوصا عن مواقف الحلفاء، خاصة فرنسا والمانيا، من المشروع الامريكي الذي كان يقوم بترتيب مجيء حكومة الطالبان. واجريت اتصالا بزميل فرنسي آخر في «لوموند».
وتوفرت لدي معلومات وشواهد كانت تغريني بأن اعطي الاولوية لهذا الموضوع، قبل مقالة الخيال الامريكي والنفط العربي. وان كانت كل فكرة تذهب في اتجاه الاخرى!! كلها خيال امريكي. لكن افغانستان كانت الخيال المريض الذي أُعطي للعرب والمسلمين. أما «دزني لاند»، فما هي إلا الخيال الرائع والجميل الذي تحتفظ به امريكا لنفسها، وهذا حقها المشروع.
* * * كنت في بداية الازمة التي حدثت في افغانستان، خاصة بعد ان فتح الباب لتدخلات خارجية، صاحب وجهة نظر مخالفة عبرت عنها في مناسبات كثيرة وكتبتها، لكنها كانت لعبة نارية خطيرة، لأن الدول والجماعات والمافيا واجهزة الاستخبارات العالمية، وسماسرة الاسلحة وتجار المخدرات، وجدوا في هذه البقعة من العالم الشروط التي تناسب مصالحهم وكل لديه غايته. لكن ليس من ضمن هذه الغايات في تقديري استقرار افغانستان او تحقيق مفهوم الجهاد المقدس. قد تكون نوايا الضحايا صادقة وحقيقية، لكن ليس هذا مكانها ابدا. الشيء الوحيد الحقيقي هو ان الصراع القديم بين المعسكرين يعيش مراحله الاخيرة. ووجدت الرأسمالية الغربية فرصتها المثالية لتوجيه ضربتها القاضية والاخيرة، وعلى حساب دول وشعوب اخرى من اجل تحقيق حلم امريكي يكاد ان يكون من ابداعات وروائع الخيال.. طريق الحرير الامريكي الجديد.
كان أسوأ من وجود تحالف بين الحزب الحاكم في بلاد احفاد هولاكو والاتحاد السوفيتي، هو مشروع طالبان!! هذه المدينة الرائعة، التي اكتب منها واتشافى فيها، يكاد يكون الحضور الاسلامي فيها اقوى واكثر اهمية من الحضور الاسلامي في افغانستان. تكساس، الولاية، اكبر مساحة من افغانستان، وتزرع هنا كل انواع الفواكه والخضار وتحارب التدخين والمخدرات.
في مدينة هيوستن يوجد اكثر من خمسين مسجدا عامرا بالصلاة والمصلين. وقيل لي انه ليس لأية دولة اسلامية اية علاقة بأي من هذه المساجد. وهذا شيء رائع وعظيم.
كانت افغانستان ولا تزال مجرد جنة عدن ثانية للتطلعات الامريكية. وتكون اكثر من ذلك اذا ما توفر من الاصدقاء من يدفع الثمن من حسابه الخاص وقوت شعبه من اجل تحقيق امنية امريكية بهذا الحجم.
وهكذا فإن القضية الافغانية وافغانستان كانت مهمة جدا بالنسبة للولايات المتحدة الامريكية. لكنها بالنسبة للاسلام، ولنا في المملكة العربية السعودية ودول عربية اخرى، كانت مصدر بؤس وشقاء. كانت أسوأ الاحداث الافكار التي سيطرت على المنطقة من بداية منتصف الثمانينات حتى هذه اللحظة التي لا يزال البحث عن المتهمين جاريا في جحور الضبان والارانب.
خلال عقدين من الزمن، أجريت اكبر عملية غسيل ادمغة على مستوى الضحايا الافراد والضحايا الدول. وقد ساهمت في هذه الحفلة اجهزة خاصة، ومؤسسات اعلامية واستخبارية، شخصيات بارزة، علماء دين وعلماء سياسة، مثقفون ومفكرون، كتاب ومغنون، ليس في المملكة العربية السعودية فحسب، بل في معظم العواصم العربية والاسلامية المهمة. انه الخيال الامريكي الطموح المغري جدا، منتج امريكي مغطى بالدولارات والوعود بالجنة.
ثم بدأت القضية تستمد شرعية جديدة تخرج من حدود السياسة الى جوهر الدين. وهو امر احيك بقوة غريبة لأن صدى الدين في نفوس شعوب المنطقة قوي جدا ومهم جدا وصادق جدا. لكن البوصلة هذه المرة كانت تشير باتجاه مختلف، وكان المطلوب ان لا يدركه احد، لأن موعد نهاية التاريخ المخترع وبداية صراع الحضارات لم يحن بعد..!! بدأت الاحداث تسرق شبابا من المدارس والجامعات ومن احضان بيوتهم في سبيل تحقيق امنية شريفة ومشروعة ألا وهي الجهاد في سبيل الله.
اصبحت حياة الافغان ومستقبل افغانستان في مقدمة اولوياتنا. وبدأ عدد الارامل في تصاعد مستمر. ودخلت القضية الافغانية الى البيوت وصعدت المنابر. وبدأنا نعيش حالات جديدة ومبكرة من التصنيفات السياسية والفكرية، هذا ملتزم وذاك علماني. وانتشرت ثقافة جديدة لم نعرفها من قبل. بل تجاوز الاثر هذه الحدود الى الجامعات والمدارس ومناهج التعليم، كل ذلك في سبيل تحقيق او مساعدة الاصدقاء الامريكان على تحقيق احلامهم الاستراتيجية (جنة عدن) في قلب آسيا الوسطى. وهذا ما ينادي به الصحافي الامريكي توماس فريدمان، بأن نتنبه اليه ونتخلص منه، وهو ما تبقى من آثار هذه العاصفة الامريكية.
انها خسارة كبرى بالنسبة لنا. بسبب هذه القضية الشائكة والمعقدة تأجلت احلام كثيرة، وتغيرت الخطوط والاحلام في بناء مجتمع مثالي بصيغة اسلامية نادرة، لأن هذا هو خيارنا الوحيد الذي يجب ان نعض عليه بالنواجذ.
هنا اريد ان احتج، اريد ان اصرخ ضد هذا العنف، ضد هذا الارهاب، ضد هؤلاء القتلة المجرمين، لكنني في الوقت نفسه اريد ان اصرخ وابكي من اجل كل الضحايا، ليس فقط في نيويورك، بل حتى في المملكة العربية السعودية ومصر والكويت وفلسطين، لقد اسيء الى صورة الاسلام هذه المرة بصورة لم تحدث من قبل، ونحن ليس لنا هوية حضارية او فكرية غيره، ولا نقبل سواه.
لكن هكذا دائما عندما ترتكب الدول اخطاءها المدمرة تبحث لها عن ضحايا تخترعهم من بين الافراد لكي تغطي سوأتها..!! هناك العشرات من نموذج اسامة بن لادن لم نعرفهم بعد، وقد يظهرون في مراحل متأخرة متأخرة، او قد لا يظهرون ابدا. والسؤال المنطقي الآن في عالم يفتقد المنطق، هو اذا كان اسامة بن لادن، الشاب المتعلم القادم من بيئة متفتحة وعائلة تجارية ارستقراطية محترمة، قد وصل الى هذه المحطة الاخيرة، فما هو واقع اولئك الذين جاءوا من فم الريح والبؤس والشقاء باحثين عن المجد والبطولة تحت راية الاسلام؟
انها الخلطة السحرية التي ركبّها المهندسون الحقيقيون لهذا البؤس من دون اي وازع اخلاقي او انساني، اولئك الذين اخفقت طموحاتهم في بناء مستقبل مضيء لشعوبهم واوطانهم في معظم بلداننا العربية للاسف الشديد.
ما الذي يذهب بنا الى افغانستان؟ بقعة جغرافية خارج كل المدارات التي يمكن ان يكون للعرب والمسلمين علاقة مباشرة او مهمة او مؤثرة بها.
انها صدمة كبرى بالنسبة لنا نحن السعوديين بالذات. لقد سرقوا منا اجمل ما كنا نفخر به، شهادة البراءة تلك التي كنا نزهو بها، ذلك الاخضر المميز الذي كنا نرفعه مثل راية بيضاء، مثل حمامة سلام، لكي نعبر نقاط العبور على عجل كأننا مجرد عابرين.
لكنهم سرقوا براءتنا ونحن نائمون نحلم بجائزة نوبل مثلا. شيء محزن ان يحدث هذا وبهذه الدقة والسرعة.
المملكة العربية السعودية، مهد الحضارات والرسالات، بوصلة القلوب والصلوات والمحبة، لكنهم يخترعون لها اولويات غريبة بين الحين والآخر، يسرقون منها بوصلتها الحقيقية ويعطونها بوصلات مزيفة لا تشير الى حيث تشرق شمسها!! لا يراد لهذه البوصلة ان تلتفت بقوة اعصاب كاملة الى اولوياتها الحقيقية، لأنه ليس في تقديري هناك اكثر من الخبز والدواء يمكن ان يقدما لسد حاجات المشردين والجائعين سواء في بلاد الافغان او الشيشان او حتى كشمير. اما الاسلام فإنه كفيل بنفسه مع قلوب الناس. هذا هو المغني البريطاني اللامع الرائع «كات ستيفن» داخل الاسلام وهو مستلق على سريره، ربما كان لحظتها يفكر في كتابة اغنية جديدة، لكنه تناول القرآن وقرأ سورة يوسف ووضع بعدها فاصلة مهمة في حياته حولته الى احد انشط الدعاة المسلمين في اوروبا، لم يغره احد بالمال ولا بالمجد، وكذلك الامر بالنسبة لمحمد علي كلاي، وكذلك مالكوم اكس … وغيرهم من النماذج الاسلامية الفاعلة البارزة من دبلوماسيين ومثقفين وغيرهم. يمكن ان نقول ان اتعس النماذج او اقلها اهمية هم اولئك الذين اعتنقوا الاسلام من خلال تأثير قنوات اخرى، وسطاء وغيرهم. في الاسلام طاقة جذابة عظيمة تحتاج فقط الى النموذج المضيء.. احسن الجامعات والمدارس، احسن المساجد، افضل الطرق والمسارح والمستشفيات ومراكز البحوث..!! لقد قدمت المملكة العربية السعودية في عهد خادم الحرمين الشريفين، الملك فهد بن عبد العزيز، واحدة من افضل وأهم صور الاسلام المشرقة، وقد لا يخطر في بال او خيال الكثير من القراء هنا ـ انه في جيلنا الحاضر الآن ـ يوجد من طاف خلال الحج والعمرة حول الكعبة المشرفة وهم على ظهور الجمال. واليوم بفضل الرؤية الواضحة للاولويات يطوف الملايين من الحجاج والزوار على قطع الرخام المبردة، يؤدون الحج والعمرة بسلام، تلك مسؤولية عظيمة وانجازات رائعة. إن الحقيقة التي لا مناص منها ان الكعبة لا تذهب الى الناس وإنما هم يأتون اليها، ثم ان هذا الشعب ليست حدوده الاخلاقية والفكرية انه شعب المملكة العربية السعودية فقط، بل هو شعب النبي الامي الامين..! انه شيء محزن ان يحدث كل هذا وبهذه السرعة المتناهية. كنا لا نزال نغرق في وحل تهمة الثراء الذي لم نعرفه قط، واذا بنا اليوم على قائمة المطلوبين والمشبوهين.
اليس من حق اي عربي الآن ان يحلم، للأسف الشديد، ولو بنصف ديمقراطية دولة اسرائيل؟ اليست هذه اقسى واقسى درجات البؤس؟
انه غياب الخيال وسيادة النفط


!!قليل من الهدوء .. الأمة تريد أن تنام
صالح العزاز

ها أنا في الغرفة الصغيرة المخصصة للمريض السعودي، في الدور السادس عشر من المبنى الزجاجي الطويل، حيث اقضي ساعات النهار من كل يوم بأمر الطبيب وكاثي، بدل أن أحمل «عدساتي» مثل عصفور في الحقول.
هذه غرفتي المرتبة، لكن بسبب صغر مساحتها تبدو كأنها زنزانة «راقية» ـ وهل هناك زنازين راقية ـ واجهتها المقابلة تحتلها نافذة جدارية واسعة، كأنها من قصائد محمود درويش، حيث السماء والشمس والهواء.
أتجه إلى النافذة، أزيح عن وجهها الستارة، فيدخل الضوء، وإشراقة السماء تملأ المكان الصغير فيصير فسيحاً، كأنني ازحت الألم مع الستارة! وإلى جانب السرير، طاولة الأدوية الصغيرة بأمر الطبيب، الذي يمرّ عليّ كل يوم يسلّيني بالآمال الجميلة.
لكن الطاولة الصغيرة، أصبحت مخصصة لأدوية جديدة، بأمر الحب هذه المرة. عشرات الرسائل الإلكترونية، كأنها الفراشات الملونة تسبقني إلى هناك، انها بانتظاري مثل جرعات دواء سحري يؤخذ بالقلب مباشرة، هذه من «هديل الرياض» وأخرى من «صديق الصحراء». اليوم، مع هذه الرسائل، مقالة رائعة منقولة عن جريدة «الجزيرة» السعودية تحت عنوان «يجب أن لا يموت الأمل». قلت في نفسي، من هذا المغامر الجريء الذي يتحدث عن الأموات بصيغة الأحياء؟ لم أتعجب عندما لمحت اسم الكاتب، وإذا به الاستاذ الفاضل الشيخ سلمان العودة، وهو رجل وإنسان أكبر من أن يُعَرّف. لم يسبق لي وله أن التقينا، لكنني كنت في ما مضى اسمعه صوتاً لا ينطفئ. شريط هنا أو محاضرة هناك. أُعجب به أحياناً وأحبه، لا أفهمه أحياناً، ولا أكرهه. الآن، إذا بي كأنني أعرفه وأفهمه لأول مرة، وإذا بالمقالة تنتشلني نحو النافذة، باتجاه الشمس والسماء والهواء. هذا رجل يتحدث عن الأمل في عالم يكبّله الإحباط واليأس.. ويحتار في كرة السلة ولون الكراسي! ها أنذا مع اللغة التي أفهمها وأحبها، فما بالك إذا جاءت من رجل فاضل من هذا الطراز.
أهلاً بنقطة ضعفي الرائعة أمام أي فكرة أو خاطرة تقول بتحرير الإنسان من قبضة الأوهام الفردية أو الجماعية، من سطوة العلاقات البشرية الفوقية، تلك التي تجعل الإنسان يقع في قبضة عقدة الشعور بالنقص من دون أن يشعر بذلك، بسبب بريق الوعود والأوهام في حفلة عابرة لمن هم «عابرون في كلام عابر». لقد جربتها وتذوقت طعم مرارتها، هناك أو هنا، حيث يخسر الفرد حضوره الإنساني ويدخل في القطيع، لأنه كان مولعاً بالبحث عن حريته، فيتحول عندها إلى كائن صامت ومتوتر في اللحظة نفسها، مثل بركان! يتحدث الكاتب الفاضل عما قد يفسد تجربة الفرد والمجتمع، حتى وإن كانت النيّات رائعة مثل نخيل الصحراء. كأنه يريد أن يقول، ها قد حان وقت فتح نوافذ الشمس والهواء وضجيج الحياة، لكي نشعر أننا أحياء ولسنا في مقبرة.
كأنني به يريد أن يحرر نعمة الحواس والعقل والإدراك، كأنه يريد أن ينفض عنها الغبار.
عندما وصلت إلى العبارة التالية: «ولقد أخطأت يوماً فوضعت مفتاح الباب لباب آخر، فوجدته يتعصى عليّ، فقلت لنفسي، سبحان الله، كيف لا أعتبر من هذا المثال الصغير لما فوقه؟».. فإذا بها العبارة التي تحلّق بي. عندها نهضت من سريري باتجاه النافذة، وقد أمسكت بأنبوب كأنه من أنابيب النفط أو الغاز في بلاد القوقاز الجديدة، لكنه يمتد إلى نافذة صغيرة ومشرعة في الجزء الأيسر من القفص الصدري.
ناديت كاثي: أرجوك حرريني من قبضة هذا الدواء إلى قبضة القلم والنافذة! ثم استبدلت دواء الطبيب بالتي هي الداء، تلك هي الكتابة. استويت في مكاني إلى جوار النافذة كأنني فيثاغورس خارجاً من نومه.. وجدتها.. وجدتها. صورة الباب والمفتاح، كم كنت مولعاً بتصوير الأبواب التي كنت أراها مفاتيح الأسرار.
لكن لم تخطر ببالي صورة من هذا الطراز، أثارت عقلي ومخيّلتي وجنوني.. ومعها زوبعة الأحزان والألم كذلك.
صورة المفتاح الخطأ في الباب الحقيقي، احدى الهوايات المغضلة لهذه الأمة! أخذت هذه المقالة إلى البعيد، خرجت من العيادة ومن المدينة ومن اللحظة، رحت كمن يريد أن يأتي بقبس… أو يبحث عن هدى.
كنت قد توقفت عن مشاهدة نشرات الأخبار أو قراءة الصحف، كجزء من محاولة تجنب الألم، خاصة أن الرحلة تبدو طويلة… والزاد قليل. لكن في النفس سراجا يضيء العتمة (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون)، من هنا يشرق الأمل ويطرد الألم (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون). من هنا تشرق الحياة بمفهومها الفطري كحق يجب أن نتمسك به، ندافع عنه، ليس فقط على مستوى الأفراد، بل المجتمعات كذلك.
كنت قد أشعلت قنديل أمل صغيراً وسط الظلام عندما توقف الأمير عبد الله بن عبد العزيز قبل أيام هنا في هيوستن. لقد ترك لي بهذه الزيارة قبساً من نور أمل أتسلى به وأثقب فيه جدار الظلام العربي الذي يحيط بنا، كأنه سور برلين ينهض من جديد.
كنت أدرك لماذا ينتابني هذا الشعور، ليس لأنني أنا وهذا الزعيم نسكن في الحي نفسه، وليس لأنه الرجل الثاني في وطني، بل أكثر من ذلك، لأنني في داخلي أعتقد أن الرجل الذي قرر حمل هذه المسؤولية الصعبة والمتوترة والمعقدة في هذا الزمن العربي، يفعل ذلك لأنه في قرارة نفسه يشعر ويعرف أن عليه أن يستجيب لطرازه الخاص، لنكهة جزيرة العرب وصهيل الخيول، لأنه يعرف أنه يرمز في ذاته الإنسانية والسياسية إلى مصداقية حقيقية، تضع مصلحة الأمة في مقدمة الأشياء، تضع العربة خلف الحصان، كان عليه أن يبحث لأمته عن مفتاح بابها الضائع وسط الخراب والدمار.
وقد جرّبناه قبل هذه اللحظة التاريخية المهمة في اللحظة المشابهة، إذ اختار لنفسه المهمة الصعبة منذ البداية. لقد دفن بيديه، يد الحكمة ويد الحسّ السياسي والمسؤولية التاريخية، بحيرة الكبريت الخطيرة، التي حفرت بليل وأحيطت بغابات يابسة وعطش، بين بلاده ـ منارة العرب وقبلة الإسلام والمسلمين ـ وجارتها المسلمة الكبرى إيران! وقد يحتاج العرب والمسلمون، وربما حتى السعوديون، إلى وقت طويل ليعرفوا أهمية هذا الإنجاز السياسي العظيم، الذي يبدو وكأنه بنى لتطلعات الأمة جسراً تعبر من خلاله نحو المستقبل بدلاً من التوتر والدمار! كنت بانتظار هذه الجولة أن تنتهي، فأُشعل على ضوء نتائجها شمعة بدلا من أن ألعن الظلام، وقد شعرت من خلال قراءات سريعة، أن هذا الإنسان فعلاً مهموم بترتيب أولويات أمّته، بل أحلامها، ونحن جزء من أحلام هذه الأمة وتطلعاتها، بأحلامها نحيا ونعيش، وإذا بهذه المقالة تأتي مثل سحابة ممطرة تخطفني من الألم، وترشقني بصورة العبارة الرائعة حول حكاية الباب والمفتاح.
لقد تشابهت على الأمة مفاتيحها، بل حتى أبوابها، وقد يغفر لنا التاريخ ذنوبنا الصغيرة، عندما تختلط علينا مفاتيح صغيرة ومتشابهة في زمن أصبح للنوافذ أقفالها. لكن التاريخ لا يغفر الذنوب والخطايا الكبيرة، أشك أن التاريخ سوف يغفر لأمة تسمح لنفسها بأن تتشابه عليها الأبواب، فتصبح المفاتيح لا قيمة لها. نحن الآن نطرق أبواباً لا تقود إلى المستقبل، نحن أمة تركض بالاتجاه الخطأ.. تريد أن تبدأ من النهاية بالاتجاه المعاكس.
كنت أتسلى أو أحاول، فأتصفح هذه الجريدة من خلال بعض الأعداد المتراكمة خارج اللحظة، فأشعر أحياناً أنني أعجل لنفسي مرارة الألم، ولا أبالغ، لأنني لا أقرأ الأشياء عبوراً، بل أتداخل معها، خاصة تلك الأشياء التي لها علاقة ببلدي أو بمستقبلي أو بحياتي وحياة أهلي، فما بالك بتلك الأشياء التي كانت ولا تزال تعصف بحياتك وقد أخذت شيئا من رفاهيتك، بل من فاتورة علاجك وتعليم أبنائك. على صدر هذه الجريدة، وفي الموقع المميز للأخبار المثيرة والمميزة، تقرير إخباري مثير يقول على لسان والد السعودي الأمريكي ـ في أول حديث صحافي ـ «إن ياسر هرب سراً إلى البحرين ومنها إلى أفغانستان». وجه كأنك تعرفه. سبق صحافي مثير، وهو كذلك منذ عشرين عاماً.. منذ أن ضاع المفتاح من يد الأمة، فمنهم من كسر الباب ومنهم من دخل البيوت من غير أبوابها! في الصفحة نفسها من الجريدة، وعند قعرها الأيسر، خبر أكثر ألماً وإثارة وسخرية، وعلى عامود واحد، يقول الخبر ـ كلينتون يطلب 50 مليون دولار لتقديم برنامج تلفزيوني.
في المساحة الفاصلة بين مساحة الخبر الرئيس في أعلى الصفحة عن قصة ياسر، وبين عنوان هذا الخبر في قعرها، يحتشد التاريخ وكأن المسافة طريق الحرير الجديد.
تختلط بين السطور والصور قبعات رجال المافيا والقساوسة، المفاتيح المسروقة والمفقودة والمتشابهة. أريد هنا أن أمارس هوايتي المفضلة، أريد أن أصرخ في وجه هذا الهدوء الذي يسبق الهدوء! هذا ليس هو المفتاح، بل هذا ليس هو الباب أيضاً، هذا ليس نحن.
نحن أيها السادة أمة محمد، نحن لسنا غزاة، نحن أهل حضارة ذات أصول وفن وإبداع، ذات ابن سيناء وابن رشد..
أرجوك «كاثي» صدقيني!..
*** أين ذهب كل هذا البريق، ما أشبه الليلة بالبارحة، كأنني اسمع هذه العبارة، المكررة ألف مرة ومرة، لأول مرة، كأنني أسمع أم آخر ملوك بلاد الأندلس عبد الله الصغير.. إبك مثل النساء! نحن نخرج، بل نطرد، من أحلامنا وآمالنا، وحريتنا وكرامتنا، كأنما يُقذَف بنا خارج القطار، وفي منطقة لا ماء فيها ولا شجر! كأن السماء صارت مثل سقف بيت طيني اقتحمته الرمال المتحركة، كأن السماء أصبحت أشد انخفاضاً مما هي عليه.
لم يعد بمقدورنا أن نرفع رؤوسنا أو نمد قاماتنا عالياً. نحن العرب في مواجهة كارثة حقيقية، تتجاوز أزمة الواقع والمراحل، لقد انتقلت عوارض المرض الخبيث إلى قلب المستقبل.
أمة تعد أبناءها بالجنة، ثم تقدم لهم مفاتيح الجحيم. هناك ألف ياسر وياسر، ومن خلفهم آلاف الضحايا الأبرياء من الأطفال والأمهات، وهؤلاء بحاجة إلى من يدفع لهم ثمن فاتورة الألم والحرمان والصقيع الإنساني الذي لا ينتهي، وكتاب المدرسة وكراسة الألوان.
لكن، مع كل هذا البكاء، ومع سبق الإصرار والترصد، أؤكد إعجابي الشديد بهذه الحضارة الغربية، ليس فقط لأنها تعالجني وتسهم في إنقاذ حياتي، بل لأنها تنظر لمستقبلها ومستقبل أجيالها بعزيمة لا تكلّ ولا تملّ، إنهم يعملون ليل نهار، وبإخلاص، من أجل تحقيق تطلعاتهم ووجودهم وبناء حضارتهم، كما كنا نفعل قبل ألف عام، ويتصرفون حيال المستقبل وكأن الحرية هي عقيدتهم الوحيدة، وكرامة المواطن هي دستورهم، مثلما كنا نفعل قبل ألف عام وأكثر. ان حضارة الغرب الرائعة تأخذ وجودها على محمل الجد فتبني المدارس والجامعات والمستشفيات بما يليق بكرامة وحرية وطموحات الإنسان، فيصبح كل فرد أمة لوحده. مثلما لم نفعل أبداً منذ ألف عام حتى الآن.
حضارة تعرف أولوياتها لمائة سنة مقبلة، ولا تسمح أن يعبث بهذه الأولويات.
أتحدى أي دولة عربية تستطيع أن تعلن عن أولوياتها وتلتزم بها لمدة 50 سنة مقبلة.
*** لقد جرّبنا ألف مفتاح ومفتاح، ولم نفتح الباب، لم يخطر ببالنا أن الباب ليس هو الباب! تكاد كمية الأوكسجين المتاحة لنا أن تنفد من محيطنا العربي، وكذلك الهواء، وهو ما يهدد الأسماك والعصافير والفراشات.
نحن في مأزق حقيقي ليس مع «الآن» بل مع ما هو أخطر، نحن في مأزق مع المستقبل المسكين، نحن أمة مسكينة، والمسكين هو من سكن إلى ما بيد غيره. وأزيد على تعريف لسان العرب، إلى من سكن لما بيد غيره من المفاتيح، لا اقصد مفاتيح السجون ومراكز التوقيف، اقصد مفاتيح المستقبل: الجامعات، ومراكز البحوث، والإبداع، والفكر، والفلسفة.
كأني أرى الباب وقد أوصد بوجه الأمة ويداها مشدودتان إلى الخلف، مثل صورة أسير يظهر على شاشة التلفزيون بصورة عابرة. وعلى الرغم من هذا وذاك، أقول معك: يجب أن لا يموت الأمل، قليل من الضوء في الظلام، قليل من الشموع.
قليل من الهدوء، فالأمة متعبة برجالها من وعثاء السفر، انها تريد أن تغفو قليلاً أو هي تريد أن تنام.
لعل حلماً قديماً يعبر ذاكرتها، لعل عابر سبيل غريباً اسمه صلاح يمر بها فيوقظها، أو ينفض عن جفنها الغبار.
أرجوكم، توقفوا عن الصراخ.. أمتكم تريد أن تنام!

!!… مات صالح العزاز.. واللوحة لم تكتمل بعد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى