رسائل المجموعة

سامحيني – قصة

جلس خلف مكتبه يقلّب أوراقه، يحصي خطواته السابقة واللاحقة، كل ثانية تعني له الكثير، تعني سهمًا إضافـيًّا .. عقدًا جديدًا.. أموالاً تنهال على حسابه الشخصي.. أرضًا.. عقارًا.. ثقلاً أكبر لاسمه في الوسط التجاري..
ترن .. تررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررن ..
التفت إلى الهاتف بغضب، كم يكرهه حين ينتشله من أعماق عمله، فقرر تجاهله عقابًا للمتصل في هذه اللحظة، إلا أن صراخه لم ينقطع مقابلاً عناده بعناد أكبر، فانتزع السماعة متأففًا:-
-" نعم ..!.. من المتحدّث .؟!".
لحظة صمت أطل من بعدها صوتها حيِـيًّا:-
-" السلام عليكم ..".
انفجر غاضبًا لما تأكد أنها هي:-
-" ألم أطلب منك ألا تتصلي بي وأنا في المكتب .؟!".
كانت تتوقع منه ذلك، إلا أنها قالت – والارتباك جلي على نبرتها – :-
-" أردت أن أسألك إن كنت ستأتي للغداء .!".
أفرغ بقية غضبه في صياحه:-
-" ألم يئن لك أن تفهمي.. اسمعي .. إن عاودتها ثانية فلا تلومي إلا نفسك.".
ولم ينتظر منها جوابًا، بل أغلق السماعة في وجهها، وزفر بقوة في محاولة أخيرة لاستعادة شيء من هدوئه وهو يرتب أوراقه.
****** ******
جرت عقارب الساعة لتتجاوز الثالثة ظهرًا، فرفع رأسه عن ملفاته منهكًا، وقد خالجه شعور بالارتياح لما أنجزه حتى الآن، فلملم أوراقه واضعًا بعضًا منها في حقيبته وفي درج المكتب، همّ بالمغادرة سريعًا لإسكات جوعه، إلا أنه عند باب الغرفة استوقفه رنين جهازه الخليوي، فألقى نظرة على الرقم .. عقد حاجبيه في محاولة تذكر صاحبه، إلا أنه لم يفلح .. ولم يجد بدًّا من الإجابة..
-"نعم ..؟!".
-" السلام عليكم .".
تهلل وجهه وهو يغلق باب مكتبه خلفه:-
-"وعليكم السلام … كيف حالك يا أبي .!".
-" بخير أيها البار ..".
احمر وجهه خجلاً وقد لمس العتاب في كلمات والده، فقال:-
-" أنا آسف يا أبي .. لكنك تعلم .. العمل والبيت ..".
ازدادت لهجة والده حدة:-
-" كل هذا لم يمنع إخوتك من زيارتنا أنا وأمك..".
ارتبك حين لم تسعفه الكلمات في تبرير موقفه، ولحسن حظه انتقل الحديث لوالدته التي انتزعت سماعة الهاتف من زوجها:-
-" كيف حالك يا بني .؟.!".
ارتسمت ابتسامة ارتياح على شفتيه، ورمى بحقيبته على مقعد السيارة، ليتكأ عليها مجيبًا:-
-" بخير يا أمي .. وماذا عنك ..؟! ما أخبارك ..؟!".
-" أخباري تعرفها عندما تأتينا بعد صلاة العشاء ".
ردد بامتعاض :-
-" اليوم ..!! .. لكن يا أمي ..!".
قاطعته بصرامة لم يعتد على مخالفتها:-
-" (سالم) .. بعد صلاة العشاء .. مفهوم ..".
تنهد مستسلمًا وأنهى المكالمة على وعد بالحضور.
****** ******
وقف أمام المرآة يعدّل من هندامه ويغرقها بالطيب والعطور، فلمح زوجه تدلف إلى الغرفة متجهة إليه، لتقف إلى جانبه متسائلة:-
-" ستخرج ثانيةً …؟!".
ألقى نظرة أخيرة على هندامه قائلاً:-
-" أجل .. اتصل بي أبي اليوم وأنا أغادر المكتب .".
التقطت ثوبه المرمي أرضًا قائلة:-
-" خيرًا إن شاء الله ..؟!".
تطلع إلى ساعة يده يتأكد من عدم تأخره على الموعد، وأجابها وهو يستعد للمغادرة:-
-" خير بإذن الله .. أظنها دعوة لتناول العشاء معهم .".
-" إذن لن تشاركنا طعام العشاء أيضًا .؟!.".
-" أعتقد ذلك .. لا تنتظروني ..".
وأغلق الباب خلفه ليقطع عليها السبيل في إلقاء سؤال آخر..
****** ******
وفي بيت والد (سالم) تجمع إخوته تلبية لدعوة والديهم، وهم بانتظار حضور بكر العائلة .. (سالم).. فجلس الأب مع بَنيه يبادلهم الحديث عن أحوالهم وأحوال أسرهم، فيما انسحبت ابنته لتعاون والدتها في ترتيب سفرة الطعام، وما أن انتهتا من ذلك حتى تساءلت:-
-" أمي .. أتعتقدين أن الفكرة ستجدي .. على حد قولها فهو مستبد برأيه لا يأبه بنصح أحد .".
وضعت أمها ما بيدها من صحون على الطاولة، وهي تقول:-
-" أنا أمه وأعلم منها به .. فلا تقلقي .".
قاطعهما جرس الباب فالتفتتا نحوه تشرئبان بعنقمها تنظران من القادم.. ومن عبارات الترحيب التقطتا اسم (سالم) وصوته، فاتجهتا إليهم تشاركان في استقباله، وبعد السلام والتحية انتقل الجميع إلى سفرة الطعام يتخذ كل منهم كرسيه كما فعلوا قبل ثلاثين سنة، ودارت صحون الطعام على الجميع، وأحاديثهم لا تنقطع.. فتارة عن أيام الصبا وزلات الطفولة التي لازالوا يذكرونها، وتارة أخرى عن الأزواج والأبناء والمفارقات التي مروا بها.. أدلى الجميع بدلوه إلا هو .. ظل صامتًا يستمع لما يقال، وذاكرته تعرض له الساعات التي تحلق فيها وإخوته مع والديهم حول مائدة الطعام.. الضحكات التي لم تغب عنهم لحظة واحدة .. فعلت شفتيه ابتسامة رضا وهو يستعيد تلك اللحظات مع كل موقف يذكره أشقاؤه.. ولسبب ما تراءت له زوجه.. بالوجوم الذي يعلو وجهها لحظة مغادرته للمكتب .. تذكر ابنه (محمد) .. هل يا ترى ذاق هذه السعادة التي يشعر بها الآن ..
-" أتعرفون .. زوجي وابنتاي لا يهنأ لهما مأكل وأنا خارج المنزل .. أتصدقون .. يتركون الطعام ليبرد بانتظار عودتي ..".
التفت إلى شقيقه (خليفة) الذي قطعت جملته خواطره، لمح الفخر يقفز من عينيه وهو يتحدث عن ابنتيه وحبهما له.. " أيحبني (محمد) كما تحبه ابنتاه ..؟!.. ربما .. وربما .!!.. و( منال) .. هل صبرها علي عن محبة أم ..؟!".
-" (سالم) .. (سالم) .. هل تسمعني يا أخي .؟!.".
انتبه على أعينهم تحدق به في دهشة مرددًا:
-" هه .. نعم ..!".
فسأله (بدر) الجالس إلى جانبه بسخرية واضحة:-
-" ما بك يا سيد (سالم) .. ألن تسمعنا شيئًا من أسرار عائلتك .. أنت أكثرنا ثرثرة فلم هذا الصمت ..؟!".
سرت الضحكات بينهم منتظرين رده، إلا أنه نهض بارتباك قائلاً:-
-" المعذرة .. يجب أن أغادر ..".
واتجه إلى والده وأمه يقبل يديهما ورأسهما قائلاً:-
-" سا محاني .. في المرة القادمة إن شاء الله نأتيكم ونسعد بمشاركتكما طعام العشاء.".
وغادر المنزل على عجل، فيما تبادل إخوته الهمهمات حول الذي أصابه.
****** ******
رتبت (منال) سفرة الطعام واتجهت إلى غرفة الجلوس حيث استلقى (محمد) أمام شاشة التلفاز، فاعترضت عليه مجال الرؤسة قائلة:-
-" هيا يا (محمد) .. لقد حان وقت العشاء .. اذهب واغسل يديك وأسرع إلى السفرة..".
نهض (محمد) بتثاقل قائلاً:-
-" وأين بابا .. ألن يتناول الطعام معنا ..؟!".
أمسكت بيده تقوده إلى المغسلة قائلة:-
-" ليس اليوم .. فقد ذهب عند جدتك ليزورها ..".
-" لِمَ لَم يأخذنا معه .؟".
فتحت صنبور الماء ورفعته ليتمكن من غسل يديه قائلة:-
-" لقد كان مستعجلاً .. لكنه سيأخذنا في المرة القادمة بإذن الله .".
كم تخشى أسئلته المحرجة .. ومن حسن حظها أنه اكتفى بهذا القدر من الأسئلة، فناولته منشفة صغيرة، وسارا معًا إلى طاولة الطعام .. استوقفهما جرس الباب يعلو بإلحاح، فرمى (محمد) بمنشفته أرضًا راكضًا إلى الباب يفتحه ..
-" بابا .. ماما .. ماما .. لقد عاد بابا .".
وبعفوية أسرعت إلى الباب لتراه .. يحتضن ابنه والدموع تغسل وجنتيه.. لأول مرة ترى زوجها بهذه الحالة .. فالتفت إليها قائلاً:-
-" سامحيني يا (منال) .. لقد أخطأت في حقكما كثيرًا ..".

=============
أختكم / يراع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى