رسائل المجموعة

بوابة التاريخ – 3

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


(بوابة التاريخ / الجزء 3)

طرقات شبه خالية من الناس، جميع المحال مقفلة تقريبًا..!!.. كان الصمت مطبقًا على المكان، تلفّت حولي عسى أن أبصر مارًا يخبرني بالذي يجري، لكن دون فائدة ..ومن بعيد تناهى إلى مسامعي صوت نحيب خافت، تبعت الصوت من باب الفضول – الذي عُرفت به – فقادني ذلك إلى زقاق قريب جلس فيه طفل دون العاشرة يبكي بصمت، وإلى جانبه ارتمى عكازاه الصغيران، رق قلبي لمرآه .. فتقدمت منه وأنا أرسم على شفتي ابتسامة هادئة، عسى أن يطمئن لي .. أخبرته بأني صديق لا أريد به سوءًا، وأني جئت لمساعدته .. لم يجبني مكتفيًا بنظرات فزعة ودموعه تنسكب على وجنتيه، فمسحت دموعه بأصابعي وأنا أردد له بأني جئت للمساعدة ..
-" أنت هناك .. ما الذي تفعله .؟!.".
التفت إلى صاحب الصوت، فباغتتني قبضتاه اللتان أطبقتا على ياقة قميصي بقوة، فحاولت جاهدًا أن أهدئ من ثورته – فعلى ما يبدو أنه والد الطفل – إلا أني لم أفلح، فالبكاد كنت ألتقط أنفاسي مع اعتصاره لعنقي، فأيقنت بهلاكي حتى سمعنا صياحًا من خلف الرجل:-
-" أنتم هناك ..".
استدار الرجل بسرعة فانعقد حاجباه وهو يعض على شفتيه غضبًا، فأفلتني لأقع أرضًا أَعُبُّ الهواء وانحنى على الطفل يحمله ويلتقط العكازين ويجري مبتعدًا، في حين رفعت رأسي لأنظر إلى هذا الذي أنقذ حياتي للتو، فأشكره على ذلك.. فاصدمت عيناي بالرشاشات الآلية موجهة إلى صدري وأعين الرجال تتطاير شررًا .
****** ******
لا أعلم كم من الوقت مرّ علي وأنا فاقد لوعيي، كل ما أدركه الآن أني أعاني صداعًا فظيعًا وألمًا شديدًا في أنحاء شتى من جسدي، فتحت عيني بصعوبة أجولهما في المكان .. غرفة متواضعة أرقد على سرير فيها، وقطع أثاث بسيطة متناثرة في زواياها، حاولت الاعتدال جالسًا إلا أن جسدي أنّ رافضًا.. وعند باب الغرفة وقف يرمقني بخجل .. ذات الطفل الذي قابلته..! فعقدت الدهشة لساني وتحاملت على نفسي حتى جلست على طرف السرير، فاندفع الطفل خارجًا ليدلف من بعده والده حاملاً بيده صينية صغيرة صفت عليها الصحون الطعام وأرغفة الخبز، وضعها أمامي قائلاً:-
-" حمدًا لله على سلامتك يا سيد …؟!".
-" (عمر) ..".
ابتسم الرجل بوقار وهو يجر مقعدًا صغيرًا ليجلس عليه مستطردًا:-
-" تشرفنا يا سيد (عمر) .. أرجو أن تسامحني على خشونتي معك البارحة.. فخوفي على (رامي) دفعني للتهور..".
رددت بضعف:-
-" البارحة ..!.".
أومأ برأسه وهو قرب الطعام مني معقِّبًا:-
-" أجل .. فظهيرة البارحة باغتنا الجنود فوجودنا معناه خرق لقانون حظر التجوال المفروض على البلدة..".
صحيح كانوا جنودًا غلاظ ..
-" وعندما وصلت و(رامي) إلى المنزل .. أخبرني بأنك كنت تحاول مساعدته.. فقررنا البحث عنك في جنح الظلام.. وبالفعل وجدناك أنا مرميًا قريبًا من نقطة نقطة التفتيش .".
أومأت برأسي متفهّمًا، وأنا أتذكر اللحظات العصيبة التي ذقتها على أيديهم..
-"يبدو يا سيد (عمر) أنك غريب عنا .؟!".
تناولت منه كأس الشاي قائلاً:-
-" أجل ..".
نهض وربت على كتفي مغمغمًا:-
-" إذًا أنت ضيفنا حتى تغادرنا.".
****** ******
تأقلمت مع عائلة (أبو رامي) في وقت قصير، حتى نسيت أمر الشيخ الذي قادني إلى هذا المكان، واليوم أرافق (رامي) إلى حقل أبيه، والذي سيلحق بنا في وقت لاحق، سرنا جنبًا إلى جنب أستمع لحديث (رامي) الشيق عن أصدقائه وأبناء عمه، وحتى عندما تربعنا على بين حشائش الحقل كان لديه المزيد والمزيد من المواقف والقصص، وبينما كان يسترسل في حديثه مد يده في جيبه ليخرج ورقة صغيرة، فقطع حكايته ليقول:-
-" سأريك شيئًا ..".
أظهرت حماسًا وفضولاً لمعرفة هذا الشيء، فقلت:-
-" وما هذا الشيء ..".
تابعت يديه الصغيرتين تثنيان الورقة بكل خفة، وفي غضون ثوان قليلة تحولت الورقة لطائرة ورقية صغيرة ، فحدقت فيها بدهشة مصطنعة وأنا أتفحصها جيدًا، فقد كانت في غاية الإتقان، وقلت مداعبًا:-
-" لا أصدق .. لابد أنك تخدعني .. ربما كانت مثنية من قبل وأنت تتبع تلك الثنيات .".
ابتسم (رامي) في حياء وقال:-
-" هاتها وسأثبت لك العكس..".
ناولته الطائرة وأنا أنتظر إثباته، فقام بفضها ثانية ليقلبها ويعيد طيها ثانية بعينين مغمضتين، هنا لم أملك سوى التصفيق له إعجابًا، فتضرجت وجنتاه خجلاً، فضممته إلي وقبلت وجنتيه بسعادة غامرة، وأنا أغبط والده على هذا الطفل الرائع .. و …
ارتفع صرير عجلات السيارة التي اقتحمت الحقل فجأة، ولفضت أربعة من الرجال يحملون البنادق، كان منظرهم يبعث بالإشمئزاز مع تلك الضفائر التي تتدلى من تحت القبعات، في حين انتبابت (رامي) نوبة فزع جعلته يتشبث بي بقوة وهو ينادي على والده الذي لم يحضر بعد، صحت بهم أن يكفوا عن ذلك .. إلا أن بنادقهم ارتفعتوأصابعهم تلامس الزناد، ضممت (رامي) إلي بقوة، وكلي خوف ورعب .. أغلقت عيني بقوة وصراخ (رامي) في ازدياد فصرخت من شدة خوفي:-
-" اتركونا .. اتركونا ..".
ودوى في المكان صدى العيار الناري..
****** ******
-" (عمر) .. (عمر) .. !".
فتحت عيني لأجد نفسي ممددًا على مقعد في الحديقة العامة، اعتدلت جالسًا وأنا أحدق في الرجل أمامي – والذي كان صديقي الحميم – :-
-" ما بك يا (عمر) .. أتنام هنا .؟! .. ماذا تريد أن يقول الناس عنك .؟!".
إذن كان كل ذلك مجرد حلم ..!.. حملت ظرفي واتجهت أغادر الحديقة مبلل الفكر متجاهلاً نداء صديقي لي .. أيمكن ان يكون كل ما حدث مجرد حلم .؟! ربما ..تاكسي .. استقللت السيارة عائدًا إلى شقتي، وعند باب العمارة وصعت يدي بيجبي لأحاسب الرجل، ولما أخرجتها كانت المفاجأة ..
فمن بين أوراقي وجدتها .. طائرة ورقية صغيرة .
(النهاية)


أختكم/ يراع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى