رسائل المجموعة

على أطلال الطفولة !!


/

يقال أن امرؤ القيس ، هو أول من وقف واستوقف ، و بكى واستبكى على الأطلال ، وقال :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل….. بسقط اللوى بين الدخول وحومل
سأحاول أنا أيضاً أن أقف على الأطلال ، لكنها ليست أطلال عمران ولا بناء ولا ديار ، بل أطلال طفولة وبراءة ، لأقول :
قفا نبك من ذكرى الطفولة إنها….. مرتع الهوى ومحاضن الطهر !

استوقفني الحنين لأيام ماضية ، وأطلال خربة ، وذكريات باقية ، أين براءة الطفولة التي عشناها صغارا ؟ أهي باقية ؟ أم أخذتها الأيام ، وبعثرتها السنين !
19 عام مضت ، أراها أمامي كحلم مر ولن يعود ، مرت بحلوها ومرها ، بصفائها وكدرها ، ببراءتها واتهامها ، بضحكها وبكاءها ، وكل ما بقي لي منها مجرد ذكريات !
هل هذه هي الدنيا ؟ تمر علينا الأحداث تسعدنا مرة وتحزننا مرة ، وفجأة تنتهي ولا يبقى منها سوى ذكريات ، هذا إن لم يأكل الزمن الذكريات أيضاً ..

أرى أمامي ذلك الطفل البريء المرح ، الذي لم يكن شيء في الدنيا يهمه غير أكله وشربه ونومه وضحكه ، يملأ الدنيا بفرحه ومرحه ، يضحك فتضحك له الدنيا ، ويبكي فتكبي معه !
فقد ذلك الطفل اليوم صوته وشكله وهيأته وربما براءته ، ولا يزال محتفظاً باسمه وصفاء روحه وبعض مرحه وبذكرياته !

أستأذن ذلك الطفل ، في فتح دفتر ذكرياته ، محاولاً بعثرة أوراقه وقراءة صفحاته ، لعلي أستعيد شيئاً من روحه الهانئة !

بعثرت الأوراق وقلبت الصفحات ، وقعت في يدي أول صفحة من حياته ، أراه وليداً قدم لهذه الدنيا ، قدم إلى الشقاء والعناء ، إلى السجن الكبير ، أذن في أذنه اليمنى ، كما سيقام قبل الصلاة عليه ، ليعلم أن هذه الدنيا كما بين الأذان والإقامة ! قدم إلى الدنيا باكياً والجميع من حوله يضحكون ، كما يدعو الله أن يخرجه من الدنيا ضاحكاً وإن كان الناس حوله يبكون !
قدم إلى الدنيا قابضاً يديه ، يود أن يحصل على كل شيء ، وسيخرج من هذه الدنيا باسطاً يديه ، وقد علم أن لن يملأ عيني ابن آدم إلا التراب !
بابا ، ماما ، هي أول ما نطقت به شفتاه ، وأول ما سعد به لسانه ، نطق بمن هم سعادته في دنياه وفي أخراه !

انتقل مبعثراً صفحة حياته الثالثة ، أراه في بيت جده – رحمه الله – ، وقد كان من عادة جده أن يكرمه كلما قدم إليه بالحلويات والسكريات ، أغدق عليه ذلك اليوم ، فأعطاه ثلاث أكياس حلويات ، لم يصدق الطفل نفسه ، ولم يتمالك مشاعره ، فما كان منه إلى أن انطلق إلى والديه ، ممسكاً بالأكياس الثلاثة ، وهو يصرخ من فرط سعادته : كاكا كيكي كوكو ، كاكا كيكي كوكو !

أراه ينطلق إلى جدته – متع الله بها – وهي تعمل في مطبخها ، فيناديها ويسحبها إلى وسط ( الصالة ) ، ويضعها في المنتصف تماماً ثم يدور حولها وهو ممتلئ بالسعادة ، بالفعل كم كان بريئاً !

اقلب صفحة حياته الرابعة ، أراه يعيث في المنزل الفساد ، يخرب هذا ويفسد هذا ويقلب ذاك ، أمه – جزاها الله خيراً على حسن تربيته – تلاحقه ، وتهدده بإخبار أبيه ، فينطق غير عابئاً بتهديدها : انتا بتنسى ، انتا بتنسى !

في صفحة حياته السادسة ، أراه يصلي مع والده – جزاه الله خيراً على حسن تربيته – في المسجد ، وقد جلس للتحيات ، لم يكن يعلم ماذا يقول ، فأخذ ينظر إلى شفاه والده كيف تتحرك ويحركها مثله ، لعل الكلمات تخرج بهذه الطريقة !

أراه في صفحة حياته السابعة ، وقد ذهب إلى المدرسة للمرة الأولى في عمره ، أعجبته الألوان والزينات التي امتلأت بها المدرسة ، وحاول اقتحام ذلك العالم وهو يمتلئ خوفاً وربما تحفزاً لهذه التجربة الجديدة وهذا العالم الجديد ، لم يكن هناك شيء يماثل سعادته من اللحظات التي يقبل فيها أمه بعد عودته ، ويبشرها بأنه أخذ نجمتين كاملتين على دفتره !

سأنتقل بسرعة بين صفحات حياته المدرسية ، فأراه في أحد تلك الأيام ، وقد أصابته ( حازوقة ) ، لم يستطع التخلص منها ، فما كان من مدرسه إلا أن اتهمه مباشرة بسرقة قلم زميله ، أنكر علاقته بتلك السرقة ، واصفر وجهه واختفت منه ( الحازوقة ) ، فضحك مدرسه وأخبره أنها حيلة ليتخلص من حازوقته !
أراه في أحد الأيام الأليمة ، بينما كان يصدح بصوته في الحفل المدرسي ، ويصرخ بكل حباله الصوتية ، إذا به يسقط على المسرح مغمى عليه ، ولم يستيقظ إلا وهو على كتف مدرسه وهو ينضح وجهه بالماء ليفيق !

أراه في الكشافة المدرسية ، مرة ينظم الطلاب للدخول أو الخروج ، ومرة يقف على الأبواب لمنع الدخول ، ومرة يخرج في رحلة كشفية ، ليتعلم أنواع الربطات الكشفية ، وأنواع إيقاد النيران ، وأنواع الصافرات والتجمع الكشفي ، كانت أيام كشفية رائعة !

في صفحات عمره الثالثة عشر والرابعة عشر ، أرى ذلك الطفل بدأت ملامحه في التغير والتبدل ، الملامح الرجولية بدأت تطغى على الملامح الطفولية ، وقد وهبه الله بسطة في الشكل والجسم ، ففي دراسته الثانوية ، كان من لا يعرفه يخطئ في تصنيفه أهو مدرس أم طالب من الطلاب ! وأخطأ الكثيرون في تقدير عمره الحقيقي ، ولا يذكر أن أحداً منهم أصاب ، فالتقديرات كانت تبدأ من 24 سنة ، وأوصلها البعض إلى 30 و32 سنة ! مع العلم أن عمره الحقيقي 17 سنة !
حتى أن الكثير من أصدقاء والده ، يعتقدون أنه أخوه الصغير ( آخر العنقود ) ويستبعدون تماماً أن يكون ولده ، ويبالغ البعض مدعين أنهم لا يعرفون من الأب ومن الابن !

أغلق دفتر ذكريات ذلك الطفل ، مكتفياً بما قرأته منه ، ومعتذراً على تطفلي على خالي أيامه وباقي ذكرياته !

يوم كنت طفلاً لم أكن لأتصور ذلك اليوم الذي سأكتب فيه ( على أطلال الطفولة ) ، أما الآن فلا أدري هل سيمد الله في عمري ، ليأتي يوم أكتب فيه ( على أطلال الشباب ) !!

قفا نبك من ذكرى الطفولة إنها….. مرتع الهوى ومحاضن الطهر !
 



عـبـد الرحـمـن الكـيلانـي


تابع جديد رسائل المجموعة على تويتر

/
twitter.com/AbuNawafNet

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى