مقالات

أستاذي: أرجوك لا تحطمني

بسعادة يدرس الثانوية العامة، و بكل أمل وتفاؤل وإشراقة  نفس، تراوده أحلام أنه  قد قرب من تحقيق أمنيته وهو طرد الفقر وذله عن بيته.
كان حفل الوداع، ولكن على  طريقة أستاذنا التربوية.
– ماذا تريد أن تدرس؟
رفع البعض أصابعهم بحماس وتطايرت الأجوبة المعتادة: طبيب، مهندس، ضابط، طيار.
وأنت؟!
فبهت صاحبنا وباغته السؤال، فهو عادة من الفئة غير المرضي عنهم.
فالأستاذ كان يتجاهل جميع الفصل إلا شلة بعينها، تجلس أقصى  يسار الفصل، وحق له ذلك، فهم طلبة متفوقون، نظيفو  الجسم، أنيقو المظهر، يسعد إن اقترب منهم فسوف تهب عليه أنواع العطور القوية، ويحاول أن يطيل المكوث جهتهم لينقذ أنفه من رائحة بقية الطلبة أبناء الفقراء ذوي الرائحة الكريهة والمنظر المتسخ.
فهؤلاء أبناء علية القوم، وعلى رأسهم ابن مدير المدرسة وابن الموجه التربوي، وابن صاحب الشركة التي اشترى  منها السيارة بالأقساط.
هؤلاء ذوو  فكر وحيث كان الغنى  كان العقل والأدب والرزانة، وأينما كان الفقر كان الشيطان الذي ينزع ورقة التوت فتبين سوأة المرء  للجميع، فتكشف جهله وسوء أدبه وعجزه وقلة حيلته وهوانه على  الناس.
زمجر المدرس: وأنت؟
حينها فقط سأل نفسه، حقا ماذا أريد؟
طوال هذه السنوات لم تتيسر له الفرصة ليسأل نفسه. ربما تربيته الفقيرة حرمته حتى حق التفكير، كان هدفه أن ينهي الثانوية لا غير.
وهذا بحده يعد إنجازا عظيما في أسرته، فهو ابن لأب أمي مزارع، قام أحد الميسورين بالسماح له بالعيش في مزرعة نخيله، والتكسب منها مقابل الاهتمام بها، وتزويده بمنتجاتها.
لذا فهو يقذف بحقيبته من الباب؛ ليهب لمساعدة والده مع إخوته، وكل يوم يكون هناك حدث جديد يشغله مثل ولادة بقرة، بيع عنزة، موت دجاج، تلقيح النخيل، صرم النخيل، وهكذا.
لا يفتح حقيبة مدرسته إلا بعد أن يعود والده للمنزل، ويتناول الجميع وجبة العشاء.
بالطبع وضع كهذا لا ينتج متفوقا مهما كان مستوى ذكائه. ولكن حلمه بأن ينهي الثانوية التي فشل أخوه الأكبر في  تحقيقها جعله يضاعف جهده ليرفع  رصيد درجاته.
نفد صبر المعلم
– اجلس، أعرف أنك لن تدرس الجامعة.
وعاد المعلم أدراجه إلى  شلته المدللة.
إلا أنه سمع  صوتا واثقا ينطلق من خلفه.
بل سأدرس في الجامعة وسأصبح طبيبا.
لماذا اختار الطب؟! يبدو أنها أكثر كلمة لصقت بذهنه، ربما لسهولة  مخرجها، لا أدري، ربما.
ولكن ما ردة فعل معلمنا صاحب التربية الحديثة ؟؟!!.
قهقه عاليا فرددت جدران الفصل صداه: أنت ستصبح  طبيبا؟.
يا لرفع المعنويات والهمم! وليته اكتفى بما قال!  بل عقب تعقيبا رائعا: سأقطع ذراعي إن أصبحت طبيبا.
وضج الفصل بضحك هستيري.
وكأنه أصيب بصعقة قلبت أمره رأسا على  عقب، فتساءل: لماذا يضحكون؟!
وما زال ضحكهم يسبب ضجيجا لدماغه، يجعله كسائل يغلي في وسط مكتوم، يكاد أن يصل به إلى  حد الانفجار.
أمسك رأسه بكلتا يديه كي لا ينفجر، ونظر إلى زملائه الطلاب ليرى من فيهم يضحك؟
آه إنهم أصحاب الصف الأول شلة القوة المضاعفة كانوا يشيرون له. ولسان حالهم يقول: من أنت كي تصبح طبيبا؟ فأنت لا تعدو عن كونك فقيرا ابن فقير.
ومن غيرهم يضحك؟
آه إنهم أصحاب الصف الأخير من أبناء جيرانه الفقراء وكانوا يشيرون له ولسان حالهم يقول: لم تلبس ثوبا ليس ثوبك؟ أو أخذك الحماس الطائش؟! وأردت تقليد أبناء علية القوم.
وأسرها في نفسه ولم يبدها لهم، وعزم أمرا وبدأ يفكر بكيف يرتب أوراقه ليحقق ما عزم عليه.
قُبل بكلية الطب، وتخرج بل وتخصص، وأصبح استشاريا وفتح عيادته الخاصة التي تحولت إلى مركز ثم مركز آخر فمركز ثالث.
وكلما سأله أحد عن سره؟ قال يعود الفضل في دراستي بعد الله إلى  ذلك الأستاذ الذي سخر مني. أتمنى أن أقابله لأخبره أنني  أصبحت طبيبا، لكنني لا أتمنى أن يقطع ذراعه، ولكن أتمنى أن يقطع فكره المحبط عن الطلاب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى